ومن الكلمات التي تتلظى لهبا, وتتقد غيرة وحماسة حين تصور بؤس المصريين, وكيف يسومهم حكامهم العسف والخسف, تلك الكلمة التي كتبها أديب إسحق وهو مريض بباريس, تحت عنوان: "نفثة مصدور" ويوازن فيها بين الحياة النيابية الحرة في فرنسا وحياة الاستبداد بمصر, فيقول: "وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة، بين أهل الحرية أسمع ألحانا في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوع الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجا بسواد القلب, فأكتب إليهم: يا قوم ظلمتم غير معذورين، وصبرتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين, فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلا، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حليا، وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم: ما هؤلاء بشر, إن هم إلا آلة سخرت للناس، يفلحون بها الأرض ويزرعون، يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون, كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.
رأيت فلاحهم في حقله الصغير, يتناول الطعام أكلا مريئا, وينام القيلولة نوما هنيئا، يأوي إلى البيت فيأكل بين عياله, ويتلو عليهم صحيفة النهار, ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم؛ لتجتمعوا على القصعة السواداء فتلتهموا فتات الشعير، وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، لتنصرفوا إلى أكواخ بالية تشبه قبورا توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم الصغار لا تعرف أبدانهم الوقاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالبا، والشيخ غاضبا، والمدير ناهبا، فأنتم في بلاء مستقر، وعناء مستمر، وتحصدون البر ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون"1.
Shafi 246