فيحده عمر حد الشراب، فيفكر شاعرنا ويطيل التفكير: هل يترك الغزل والخمر؟ - لقد كان ذلك قبل الحد أما بعده فلا. إن من العار أن يتحدث الناس أني تركت الخمر خوفا من العقوبة وأنا الأبي الشجاع الذي لا يعبأ بالحياة - إذا فلأشرب وليحدني عمر - وفعلا شرب فحد، وشرب فحد، وبلغ ذلك سبع مرات أو ثمانيا، وهو لا يزال على رأيه، مصمم على تفكيره، ماض في غزله وشربه، حتى يئس عمر من علاجه وضاق به ذرعا، فقرر أن ينفيه في جزيرة كانت تنفي فيها العرب في الجاهلية خلعاءها، وبعث معه حرسيا يحافظ عليه حتى لا يهرب، وأوصاه ألا يأخذ سجينه سيفا معه؛ وقد عرف عمر كيف ينتقم، فلم يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي - سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب؛ ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتلون ويقتلون، وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي. لا. لا. الموت أهون من هذا.
تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا، وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق؛ حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغذاء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقا فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة، وظل صاحبنا وحده. الآن، لا أعود إلى المدينة وفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة - إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراسا، إلى «القادسية» حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس.
ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه؛ فما وصل إلى القادسية إلا وقد سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده؛ فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فيأبى؛ فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلي خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي. فأبت، فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:
كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت
مغاليق من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلم سلاحي لا أبا لك إنني
Shafi da ba'a sani ba