ولكن ما بال المرأة وقد حافظت على التقاليد في السياسة والدين والاجتماع وكرهت الثورة عليها، تراها وهي في الأزياء وما إليها أسرع الناس تغييرا وأحبهم تجديدا وأكرههم للمحافظة؟ لعل الأمر أنها لم تخرج عن المحافظة قط ولكنها كانت بين محافظتين: محافظة على أسر الرجل ومحافظة على أنماط الأزياء، فقارنت بين المحافظتين واختارت أهون الضررين.
لعل سعة خيال الرجل وضيق خيال المرأة، وجريه وراء النظريات وميلها إلى تحديد الحياة بالواقع؛ هو الذي جعلها تسيطر على حياة الحب. فبيدها المفاتيح لا بيده، هو يسبح وراء خياله، فإن كان شاعرا ملأ الدنيا غزلا وتفنن في ضروب القول وأبدع؛ فأحيانا يرتفع إلى السماء فيتغزل الغزل الروحي، ويخلق ممن يحب صورة ملك كريم؛ وأحيانا يهبط إلى الأرض فيدق في وصف ملامحها ونظراتها وقوامها وكل شيء فيها، ويخترع في ذلك التشبيهات الرائعة، والتعبيرات الخيالية؛ وإن كان مصورا تفنن في صورة من يحب وخلع عليها من تخيلاته وتصوراته ما يجعلها فوق مخلوقات هذا العالم؛ وإن كان موسيقيا ألهمه الحب فأخرج قطعا فنية بديعة أحيانا تبعث على اليأس وتستذرف الدمع، وأحيانا تستخرج البشر والسرور وتثير الأمل؛ أما هي فأملك لنفسها غالبا، وخير منه في تقدير الواقع والاعتراف بالحقائق. ولعلنا إذا أحصينا المنتحرين لفشل الحب وجدنا أكثرهم رجالا؛ ولعل أكثر من اندفع في سبيل الخيال من النساء كان بإغراء الرجل وبفضل ما أجاد من سحر القول وإتقان الغزل والبلاغة في الفن؛ فهو إن طار في الخيال فطبع، وهي إن جرت وراءه فتطبع، وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت الناس رجالا ونساء يحملون المرأة من التبعة في الحب وتوابعه أكثر مما يحملون الرجل.
قد تبدو المرأة أحد عاطفة من الرجل؛ فهي سريعة الرضا سريعة الغضب، سريعة الحب سريعة الكره، ترضيها الكلمة وتغضبها الإشارة، قريبة الدمعة قريبة الابتسامة، ترق فتذوب حنانا، وتقسو فما تأخذها رأفة، تحب فتصفي الود، وتعادي فويلاه من عداوتها.
ولكن حتى في عواطفها وعواطفه هي عملية وهو نظري. ترحم فتتحول رحمتها وحنانها إلى تمريض للجرحى وإعداد ملابس للمساكين. وتحب فترسم خطط الزواج، وتبغض فتطلب الفراق، وتسر فكل شيء يدل على سرورها، هي ضاحكة وهي مغنية وهي مرحة، وتحزن فكل شيء يدل على بكائها، فهي عابسة، وهي مكتئبة، وهي توقع نغمات محزنة. ثم هي تحب مشاركة الناس لها في سرورها وحزنها أكثر مما يحب الرجل. فليس للرجال مناحة كالتي للنساء، ولا حفلات مرحة كل المرح كالتي للنساء. أما هو فيغضب على النظام فيثور وهي لا تعرف الثورة، ثم يحب وكثيرا ما يخلو ذهنه من زواج، ويكره فلا يطلب الفراق، ويسر ويكتم سروره، ويحزن ويكتم حزنه، ويقترن حبه وكرهه وسروره وحزنه بمشروعات خيالية لا تجيدها المرأة!
هذه ناحية واحدة من نواحي الرجل والمرأة وما أكثر نواحيهما.
ولكن إنصافا للحق يجب أن نذكر أن المرأة في عصور التاريخ لم تتح لها كل الفرص التي أتيحت للرجل؛ فلا منحت من الحرية ما منح، ولا مهدت لها وسائل التعلم كما مهدت له، ولا تحملت من المسئوليات ما تحمل؛ ولم تبدأ تتمتع بحريتها وتتاح لها سبل التعلم إلا من عهد قريب، على حين أن الرجل ظل قرونا طويلة حرا طليقا يتعلم ما يشاء ويزاول الأعمال ويتحمل تبعاتها.
فهل إذا ظلت المرأة في سيرها تتعلم وتكافح في الحياة وتطالب بما نقص من حقوقها تبقى هذه الفروق العقلية والخلقية كما أبناها قبل؟ أو تضمحل الفروق تبعا لسير المرأة في سبيل المساواة؟ وبعبارة أخرى: هل هذه الخصائص العقلية التي شرحناها في كل من الرجل والمرأة هي خصائص طبيعية كالخصائص الجسمية، أو هي فروق كانت نتيجة ما مر على الرجل من أطوار اجتماعية؟
ذلك ما سيكشف عنه الزمن.
فن الحكم
يعاني الشرق الآن محنة من أشد أنواع المحن، سببها أنه بدأ يحمل عبء نفسه ، وقد كان يحمله عنه المحتل.
Shafi da ba'a sani ba