تصدير
في هذا الديوان كثير من شعري الذي نظمته في سنة 1934م، بين شواغلي الكثيرة التي تضاعفت إلى درجة مرهقة يراها النقاد كفيلة بالقضاء على إنتاج أي شاعر، ولكن هذه الشواغل في الواقع كانت بين العوامل التي جعلتني ألجأ إلى الشعر أبثه آمالي وآلامي، ولا يعنيني بعد هذا إلا كما تعنيني صور حياتي أتأملها فأستعيد من الذكريات ما فيه غذاء عواطفي.
وقد شهد هذا العام حفاوة مزدادة بالشعر الحديث ولكن دائرة هذا الشعر ما تزال برغم ذلك محدودة. ومن الحق أن نقرر ذلك وأن نعترف بأن الشعر الغالب في العالم العربي وفي مصر خاصة هو ما يمثله نظم الجارم وعبد الله عفيفي والماحي وأقرانهم، وهو شعر فيه غالبا مرائي الماضي في ألفاظ موسيقية تقليدية. وقد اعترف أستاذنا مطران بذلك في تقديمه الشعري الصريح لديوان الماحي الذي لم يثر عليه إلا المجددون المتشددون، بعكس الكثيرين من الأدباء - ومن بينهم بعض المجددين المتسامحين كمحمود عماد - فهؤلاء قد رأوا في شعر الماحي فخرا للأدب العربي وعدوه مرآته في هذا العصر.
إزاء هذا لم أكن أنتظر أن يجرأ شاعر من شعراء الشباب كمختار الوكيل ويتشبث بتأليف كتابه «رواد الشعر الحديث» وبأن يضعني بين أعلامه، فهذا «الشعر الحديث» محصور الدائرة، ثم إن أعلامه هؤلاء محصورو النفوذ، وأنا أقلهم نفوذا وإن كثرت ميادين إنتاجي. ولكن هي الرغبة الفنية التي ألحت على ذلك المؤلف الشاعر فأبى إلا أن يشيد بمذاهب «الشعر الحديث» وأن يذكر خدامه العاملين على نصرته الذين يتمنون مثلي اقتراب عزته وإن لم أشاركهم في تفاؤلهم التام.
نعم، إني أقل هؤلاء نفوذا وأقلهم تفاؤلا بالنسبة لهذا الجيل، وإن كنت أكثرهم دأبا وإنتاجا، وقد أؤثر باتجاهاتي في بعض الشعراء ولكن عددهم محدود، وإذا سرى تأثيرهم بين الشعراء الناشئين فالفضل لهم وليس لي، فإن حالي في عزلتي النسبية، وفي استقلالي الفكري والتعبيري أشبه بحال الشاعر وليم بليك، وإن كنت لم أنتج بعد مثل إنتاجه، فقد بلغت دواوينه الشعرية مائة مجلد ضاعت جميعها، ولولا المواظبة على طبع إنتاجي الجديد تلبية لإلحاح خلصائي - وهم شطر من نفسي - وتلبية لنوازعي الوجدانية، لضاع هذا الشعر كما ضاع غيره من قبل دون أن تحس بفقده جمهرة الأدباء في هذا الجيل.
إذن لست أدعي لهذا الشعر أية مكانة في نفوس الأدباء المعاصرين عامة، وإن كانت له مكانة في نفوس مريدي من خاصة المتعلمين وهؤلاء قليلو العدد. وإذا كان بعضهم قد تفضل وعاونني أدبيا على دراسة مؤلفاتي الشعرية فليس معنى ذلك أني أقر كل ما كتب عني من تقدير نقدي، وإن اعترفت بقيمته الأدبية كتبيان لما تراه بيئة الشاعر الخاصة في شعره وعوامله واتجاهاته، وهذه نقط لها قيمتها الفنية في التأريخ الأدبي، خصوصا إذا كان الشاعر غريبا في تفكيره وأخيلته وتعابيره الطليقة عن المألوف في عصره.
وإذا كنت قد تناولت قبلا أو أتناول الآن بالتعليق في هذه الصفحات أو في غيرها بعض النقط الفنية المتصلة بالشعر، فإنما هو تناول المؤمن المدافع عن إيمانه، لا أملا في الإقناع والبيئة غير مستعدة له، ولكن تنفيسا للآراء المكبوتة وتزكية عن الفن المقدس وبرا بوفاء المريدين الغيورين. وكثيرا ما قلت لهؤلاء الخلان: إني لا أنتظر أن يعنى بمثل هذا الشعر العناية الكافية في حياة صاحبه مهما غالينا في التأميل، وإن أمر نشره لا صلة له بالعناية المرتقبة ولا المرجوة، وإنما هو حامل رسالة فنية هي من صميم كيانه وهي التي تزجيه إلى الظهور في هذه الصفحات المطبوعة سواء ألاقت هذه الرسالة إقبالا عليها أم إعراضا عنها، وقد تكون رسالة إلى المستقبل قبل أن تكون رسالة إلى الحاضر. •••
ينادي المنادون من أصدقائنا المحافظين وأنصاف المجددين بأن الشعر «موسيقى» قبل كل اعتبار آخر، ونحن لا نفهم من الشعر إلا أنه «شعر» قبل كل اعتبار آخر، وليس معنى هذا أننا نكره اقتران الشعر كفن بفنون أخرى وفي مقدمتها الموسيقى، ولكننا نأبى تبعية الشعر لأي فن سواه وإن رحبنا بمزاملته غيره من الفنون الملائمة له.
لنأخذ مثلا قول ابن الرومي وصفا لهاجرة في صحراء:
وهاجرة بيضاء يعدى بياضها
Shafi da ba'a sani ba