بسم الله الرحمن الرحيم
[السؤال]
Shafi 19
ما يقول سيدنا ومولانا قاضي القضاة وشيخ الإسلام، أعز الله تعالى به الدين، وقمع به المارقين، في رجل ملك دارا، لها شبابيك، تطل على المسجد الحرام المكي، ويشاهد الكعبة، فوقف الدار المذكورة مسجدا، وقرر بها وظائف دينية، وحفر لها صهريجا لملء الماء، وجعل على ذلك وقفا، ووسع الشبابيك، وجعل بعضها معدا ليستقى منها الماء الذي ينقل من الصهريج، وشرط على الساقي أن يتصدى لذلك معظم النهار، وفي أوقات غيبته؛ من نهار أو ليل، يضع من داخل الشباك إناء كبيرا يملؤها ليسقي منه الماء -من وراء الشباك- من يتعذر عليه الوصول إليه إلا بذلك، إرفاقا لمن يبيت في المسجد الحرام للاعتكاف، أو الطواف، أو غير ذلك عند إغلاق الأبواب.
وأراد الواقف أن يجدد شباكا زائدا في مكان من الدار المذكورة لينتفع به من يقيم في ذلك المكان للضوء، ومشاهدة الكعبة.
فهل يجوز له ذلك مع صحة قصده وظهور القربة في ذلك، أو يمنع لكونه يلزم منه أن يتصرف في الجدار الموقوف بغير إذن واقفه؟
بين لنا جميع ذلك بيانا شافيا، أمتع الله بك الأمة، وأحيا بك السنة، وكشف بك الغمة. آمين.
Shafi 20
[الجواب]
الحمد لله، اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك.
هذه المسألة ذكرها الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى في فتاويه.
Shafi 21
وحاصل ما أجاب به: أن قواعد الشافعية تقتضي المنع من تغيير الوقف.
إلا أن بعضهم يتحصل من كلامه أن ذلك يجوز بشرطين:
أحدهما: أن يكون الفتح يسيرا، بحيث لا يغير مسمى الوقف؛ كمن أراد فتح باب في مكان موقوف للانتفاع به زائد على الباب الأول، وبذلك صرح ابن الصلاح في فتاويه.
Shafi 22
الثاني: أن لا يزيل شيئا من عينه، ولا يتصرف فيه في غير الموقوف المذكور، بل ينقله مثلا من جانب إلى جانب.
قلت: وهذا الشرط الثاني مبني على أن آلات الوقف لا يجوز التصرف فيها ببيع ولا غيره، خلافا لمن أجاز بيع ذلك عند تعذر الانتفاع به في الوقف المذكور.
ويتأكد ذلك في الصورة المسؤول عنها؛ لأنه في حق المسجد الحرام، فإن جميع الحرم لا يجوز إخراج شيء منه إلى الحل، حتى الحصى والتراب، وغير ذلك.
Shafi 23
ثم قال السبكي: فإن وجد هذان الشرطان، وكان في ذلك مصلحة للوقف جاز.
لكن فتح أبواب للحرم لا مصلحة للحرم بها، وإنما هي لمصلحة ساكنيها، فلا يجوز ذلك على مقتضى مذهب الشافعي.
Shafi 24
ثم نقل عن ابن الصلاح رحمه الله تعالى ما يقتضي الجواز إذا كان مصلحة لأهل الوقف؛ فإنه استفتي في رباط اقتضت المصلحة لأهله فتح باب جديد يضاف إلى بابه القديم، فأجاب بما حاصله: إن لم يكن ذلك إلا مجرد فتح باب جديد فلا بأس به عند اقتضاء المصلحة ذلك، واستدل لذلك بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يجعل للكعبة بابا ثانيا، وبفعل عثمان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
Shafi 25
وسلم السبكي صحة الجواب، وتوقف في صحة الاستدلال بالحديث والأثر، فقال: فيه نظر. ولم يبين وجه النظر، وكأنه من جهة الحديث أن الفعل الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله إنما هو استدراك لما فات كفار قريش حين بنوا الكعبة، وكان الباب الثاني قبل ذلك على عهد من مضى منذ بناه إبراهيم الخليل عليه السلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إعادته على ما كان، فلا يصح الاستدلال به على جواز فتح باب ثان في المكان الموقوف.
ومن جهة الأثر أنه يحتاج إلى بيان ما فعله عثمان رضي الله عنه في المسجد النبوي؛ فإن كان من جهة مجرد تغييره عما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فذاك للمصلحة العامة، والمسؤول عنه مصلحة خاصة، وإن كان من جهة أنه فتح بابا لم يكن قبل ذلك، أو كان قبل ذلك، لكن سد لما سدت الأبواب، فلا يقاس عليه غيره؛ لأنه الإمام الأعظم.
Shafi 26
ولذلك لما أمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في مسجده استثنى باب أبي بكر، وغير ذلك في إشارته صلى الله عليه وسلم إلى أنه الخليفة بعده.
ثم قال السبكي: محل الجواز في المسجد الحرام ما إذا ضاقت أبوابه مثلا من ازدحام الحجيج ونحوهم، فيجوز فتح باب آخر، وأما لغرض خاص من جيرانه فلا.
Shafi 27
وهذا التفصيل الذي ذكره يخالف ما تقدم من جزمه بالمنع إذا لم تكن المصلحة لنفس الوقف بل لجهة أهل المكان فقط، ويخالف أيضا ما أجاب به ابن الصلاح من التجويز؛ فإن جواب ابن الصلاح ظاهر فيما إذا كان لأهل المكان الخاص مصلحة أنه يجوز التغيير المذكور، وكلام السبكي الثاني يقتضي عدم الجواز إلا إذا كانت المصلحة عامة، فينبغي التمسك به؛ لأنه متوسط بين تجويز ابن الصلاح المطلق، وبين منع السبكي المطلق.
وإذا تقرر ذلك؛ ففي الصورة المسؤول عنها مصلحة خاصة بأهل المكان المسؤول عنه، ومصلحة عامة لغيرهم؛ أما خصوص المصلحة فظاهر وسأبينه، وأما عمومها فلما فيه من عموم النفع بالماء المذكور للحجيج وغيرهم من المجاورين.
Shafi 28
فصل
وجميع ما تقدم مبني على كون الجدار المذكور المسؤول عنه باقيا من عمارة الذي جدد المسجد الحرام لما وسع.
وإلا فيحتمل أن يكون الجدار الذي فتحت فيه الشبابيك من تجديد صاحب الدار الذي فتح الشبابيك من أجلها.
Shafi 29
وبيان ذلك: أن الأزرقي، والفاكهي، والمفضل الجندي، وعمر بن شبة، وغيرهم ممن صنف أخبار مكة -شرفها الله تعالى- ذكروا - ودخل كلام بعضهم في بعض - أن المسجد الحرام المكي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ضيقا، وكانت الدور قد أحاطت به من جميع جهاته؛ خصوصا الجهة الشمالية التي فيها دار الندوة، فقد كانت بتلك الجهة دار يفيء ظلها على الكعبة إذا مالت الشمس -لقربها من الكعبة حتى كان بعضهم ينادي من فيها، فيطلب حاجته وهو عند الكعبة-، فاشترى عمر رضي الله عنه -وذلك في سنة سبع عشرة من الهجرة- الدور التي حول المسجد، وهدمها، ووسع المسجد، وعمل الجدار المحيط به من جميع جهاته، وجعل له أبوابا.
ثم إن عثمان في خلافته وسعه أيضا من جهاته كلها، وأتقن عمارته؛ وذلك في سنة ست وعشرين من الهجرة.
ثم لما أحرقت الكعبة في أول خلافة عبد الله بن الزبير وبناها، وسع المسجد أيضا من جميع جهاته إلا الجهة الغربية، وزاد في أبوابه من جوانبه توسعة على من يقصد دخوله.
ثم استمر الأمر على ذلك، فلم يوسع فيه أحد من الخلفاء بعد ابن الزبير شيئا، إلا أن عبد الملك بن مروان أمر في خلافته بزيادة إتقانه.
وكذلك ولده الوليد بن عبد الملك زاد في إتقانه وفي زخرفته.
Shafi 31
فلما أن آلت الخلافة إلى بني العباس، [و] ولي أبو جعفر المنصور الخلافة، كان أول شيء صنع -في أول سنة من خلافته- أن أمر بتوسيع المسجد الحرام، فشرع بحسب أمره في ذلك من سنة سبع وثلاثين إلى سنة أربعين ومئة، وكانت الزيادة من الجانب الغربي ومن الجانب اليماني؛ مرة في سنة إحدى وستين ومئة، ومرة في سنة سبع وستين ومئة، وكمل ذلك في خلافة ولده الهادي.
ثم لم ينقل عن أحد من الخلفاء بعدهم تجديد شيء من الزيادات فيه إلا ما وقع في الجانب الغربي من جهة باب إبراهيم؛ وهي الزيادة الموجودة الآن.
Shafi 32
وإبراهيم الذي نسب إليه الباب المذكور شخص خياط كان يجلس فيه فنسب إليه. ذكر ذلك أبو عبيد البكري في معجمه، ومن زعم أن المراد به إبراهيم الخليل عليه السلام فقد وهم.
وكان تجديد هذه الزيادة التي من جهة باب إبراهيم في خلافة المقتدر في سنة ست، وفي سنة سبع وثلاث مئة، وكذلك الزيادة التي من الجهة اليمانية وهي دار الندوة، وكان تجديدها في خلافة المعتضد بعد سنة ثمانين ومائتين.
Shafi 33
والغرض من إيراد هذه المواضع أن يعلم أن كل خليفة تعرض للتجديد وفعله يلزم من ذلك تغيير ما عمله الذي كان قبله، وقد فعلوا ذلك خلفا عن سلف بغير نكير عليهم، بل كانوا يستحسنون ذلك لما فيه من المصلحة لأهل المكان، بل ولأهل الآفاق.
وإذا تقرر ذلك، فجائز أن يكون الجدار الموجود الآن من الجهات كلها هو الذي بناه؛ الذي جدد المسجد ووسعه أخيرا.
Shafi 34
وأنى يتأتى ذلك مع احتمال أن يكون حين التجديد كانت الدور التي هي الآن مجاورة للجدار موجودة، وإن لم تكن كلها فجائز أن يكون بعضها، وجائز أيضا أن يكون بعض الجدار القديم -لقدم العهد- قد استهدم أو تعيب، فأعاده بعض من جاوره من أصحاب الدور وعمل الشبابيك المذكورة فيه في بنائه الذي جدده.
وعلى هذا يحمل صنيع من تقدم من الملوك وغيرهم في المدارس والبيوت التي لها شبابيك مطلة على المسجد الحرام؛ فإن ذلك كثير جدا في جميع جهات المسجد، ومنها ما يظهر أن بناءه ليس من البناء القديم.
وفي كثير من الدور المحيطة بالمسجد أبواب يتطرق منها إلى المسجد، والحكم في خرق هذه الأبواب كالحكم في خرق الشبابيك التي بالدور المذكورة.
وتزداد الصورة بأن فيها مصلحة خاصة ومصلحة عامة:
أما الخاصة فلما فيه من المنفعة الظاهرة لأهل المكان، من مزيد الاستضاءة -وهذه دنيوية-، ومن حصول مشاهدة الكعبة وإمكان الصلاة مع الجماعة التي تقوم في المسجد لمن يقوم في نفس الجدار؛ لأنه من جهة المسجد بخلاف من تقدم فيما دون الجدار فلا يصح ائتمامه -وهذه والتي قبلها دينية-.
Shafi 35
وأما العامة فما تقدمت الإشارة إليه من عموم النفع لكل من في المسجد ومن يطرأ عليه من الآفاقية، بالشرب منه، والانتفاع بذلك، حيث لا يوجد الانتفاع بغيره في كثير من الأحيان، وهذا معنى مقصود.
وفي الذي قدمته من تجديد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أبوابا للمسجد لم تكن قبل ذلك ما يستدل به على هذه المسألة؛ لأن النفع بهما مشترك، فكما أن تكثير الأبواب ينفع أهل البلد والآفاقية عند الازدحام، فكذلك الشباك الذي يعد لسقي الماء مسبلا ينفع أهل البلد والآفاقية في غالب الأحوال.
وينبغي عندئذ أن يقال:
إذا استأذن الواقف المذكور الإمام الأعظم في ذلك وأذن له، جاز له أن يفعل ما أذن له فيه، ليحصل إلحاق ذلك بما فعله الإمام الأعظم في زمانه؛ وهو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ولا يحفظ عن أحد من أهل زمان عبد الله بن الزبير -وفيه من الصحابة العدد الكثير ومن فضلاء التابعين الجم الغفير- إنكار لما فعله.
Shafi 36
فبه وبهم القدوة، ولمن تأخر عنهم حسن الأسوة، والأعمال بالنيات، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى اجتناب السيئات وعمل الحسنات؛ لا إله إلا هو.
Shafi 37
قاله وكتب أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله تعالى عنه حامدا لله تعالى ومصليا على نبيه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومسلما
Shafi da ba'a sani ba