كتاب الطهارة
(الكتاب) لغةً: الضم والجمع، واصطلاحًا: اسم لضمٍّ مخصوص، أو لجمة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالبًا.
و(الطهارة): مصدر طَهَر - بفتح الهاء وضمها، والفت أفصح - يطهُر بضمها فيهما، وهي لغةً: النظافة والخلوص من الأدناس حسية كانت أو معنوية؛ كالعيوب، وشرعًا: زوال المنع المترتب على الحدث أو الخبث، أو الفعل الموضوع لإفادة ذلك، أو لإفادة بعض آثاره كالتيمم؛ فإنه يفيد جواز الصلاة الذي هو من آثار لك، فهي قسمان، ولهذا عرفها النووي وغيره باعتبار القسم الثاني بأنها: رفع حدث، أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما؛ كالتيمم والأغسال المسنونة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة.
(وإنما يصح تطهيرٌ بما ... أُطلق لا مستعملٍ، ولا بما)
(بطاهرٍ مخالطٍ تغيَّرا ... تغيرًا إطلاق الاسم غيَّرا)
(في طعمه أو ريحه أو لونه ... ويمكن استغناؤه بصونه)
(واستثن تغييرًا بعودٍ صُلْبِ ... أو ورقٍ أو طُحلبٍ أو تُرب)
فيها ثلاث مسائل:
[لا يصح التطهير إلا بالماء]
الأولى: أنه إنما يصح التطهير - أي: في غير الاستحالة والتيمم - بالماء المطلق.
وأفاد تعبيره: بـ (إنما) المفيدة للحصر: حصر التطهير في الماء المطلق، وهو كذلك؛ لقوله تعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا﴾، وقوله تعالى: ﴿ويُنزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به﴾ ذكر الماس امتنانًا، فلو طهر غيره .. فات الامتنان، ولما يأتي.
أما في الحديث وهو هنا: أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص .. فلقوله تعالى: ﴿فلم تجدوا ماءً فتيمموا﴾، وأما في النجس وهو: مستقذر يمنع صحة الصلاة
1 / 119
حيث لا مرخص .. فلقوله ﷺ حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذنوبًا من ماء" رواه الشيخان، والأمر للوجوب.
فلو رفع غير الماء .. لم يجب التيمم عند فقده، ولا غسل البول به، ولا يقاس به غيره؛ لأن اختصاص التطهير به عند الإمام تعبد، وعند غيره لما فيه من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره.
ودخل في عبارته: تطهير دائم الحدث، والغسلة الثانية والثالثة، والوضوء المجدد، والأغسال المسنونة، وتناول الماء جميع أنواعه بأي صفةٍ من أحمر وأسود، ومنحل من الثلج أو برد، ومنعقد منه ملح أو حجر، وكذا متصاعد من بخار مرتفع من غليان الماء على الأصح؛ لأنه ماء حقيقة وينقص الماء بقدره.
وخرج به: ما لا يسمى ماء؛ كتراب التيمم، وحجر الاستنجاء، وأدوية الدباغ والشمس، والريح وغيرها، حتى التراب في غسلات النجاسة المغلظة؛ فإن المطهر لها هو الماء بشرط امتزاجه بالتراب في غسلة منها كما سيأتي في بابها.
و(المطلق): ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد وإن قيد لموافقة الواقع؛ كماء البئر والثلج والبرد، فدخل فيه المتغير كثيرًا بما لا يؤثر كطين وطحلب، وخرج عنه المقيد بإضافة نحوية كماء الورد، وبصفة كماء دافق؛ أي: مني، وبلام عهد كقوله في الحديث: "نعم إذا رأت الماء" أي: المني.
[التطهُّر بالماء المستعمل]
الثانية: أنه لا يصح التطهير بالماء المستعمل القليل؛ وهو ما استعمل في فرض من رفع حدث أو إزالة نجس؛ لما سيأتي آخر هذا الكتاب.
ومقتضى كلام المصنف: أنه ليس بمطلق، وهو ما صححه النووي في "تحقيقه" وغيره، فلا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء،
1 / 120
لكن جزم الرافعي بأنه مطلق، لكنه منع من استعماله تعبدًا، وقال النووي في "شرح التنبيه": إنه الصحيح عند الأكثرين.
[الماء المتغير بطاهر]
الثالثة: أنه لا يصح التطير بماءٍ تغير بطاهر مخالط له تغيرًا كثيرًا بغيِّر؛ أي: يمنع إطلاق اسم الماء عليه؛ بأن يحدث له اسم آخر حال كون التغير في طعمه أو ريحه أو لونه، ولهذا لا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء.
وشمل كلامه: التغير الحسي والتقديري؛ كما إذا وقع في الماء ما يوافقه في صفاته؛ كماء مستعمل، أو ماء شجر، أو عرق فلم يغيره، لكنه لو قدر مخالفًا له .. لغيَّره التغير المؤثر، والمعتبر تقديره بالأشياء المتوسطة؛ كلون العصير، وطعم الرمان، وريح اللاَّذَن، فلا يقدر بالأشد؛ كلون الحبر، وطعم الخل، وريح المسك، بخلاف النجس؛ لغلظه.
وخرج ما لم يتغير، أو يتغير لا بأحد الأوصاف الثلاثة كالمسخن والمبرد، أو بأحدهما لا بمخالط كالمتغير بما قرب منه، أو بطول المكث، أو بمجاور كدهن وكافور صلب وقطران لم يختلط بالماء، أو بما يخالطه لا غنى للماء عنه كالمتغير بطين، أو طحلب متفتت، أو نورة، أو زرنيخ بمقر الماء أو ممره، أو له عنه غنى وغيَّره يسيرًا فكل منها يطهِّر؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه.
وإذا لم يؤثر التغير بالخليط .. جاز استعماله في الجميع؛ لاستهلاكه وبقاء الاسم، وعليه: يلزم تكميل الناقص عن الطهر بالمستهلك إلا أن يجاوز ثمنه ثمن الماء المعجوز عنه.
و(المخالط): ما لا يتميز في رأي العين، وقيل: ما لا يمكن فصله، بخلاف المجاور فيهما، وقيل: المعتبر العرف.
ثم أمر المصنف المخاطب بأن يستثني من ذلك صورًا:
الأولى: المتغير بمجاور تغيرًا كثيرًا، وقد أشار إليه بقوله: (بِعُودٍ صُلب) فإنه يصح التطهير به؛ لأن تغيره بذلك لكونه تروحًا لا يمنع إطلاق الاسم عليه.
الثانية: المتغير بورق شجر تناثر وتفتت ولو كان ربيعيًّا أو بعيدًا عن الماء؛ فإن يصح التطهير به؛ لعسر الاحتراز عنه، فإن طرح ولو صحيحًا وتفتت .. ضر؛ لأنه مخالط مستغنىً عنه، أما غير المتفتت .. فمجاور، وقد مر أنه لا يضر.
1 / 121
وخرج بالورق الساقط ونحوها؛ فإنها تضر؛ لإمكان التحرز عنها غالبًا.
الثالثة: المتغير بما في مقر الماء وممره، وقد أشار ليه بـ (الطُّحلُب) بضم مع ضم اللام وفتحها، فإنه صح التطهير به؛ لتعذر صون الماء عنه.
الرابعة: المتغير بالتراب وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به؛ لأنه تغيره به مجرد كُدورة وهي لا تسلب الطهورية، ولموافقته الماء في الطهورية.
وكلامهم شامل للتراب المستعمل وهو ظاهر؛ فإن كلًا منهما علة مستقلة؛ إذ الأصل عدم التركيب، وظاهر أنه إن تغير حتى صار لا يسمى إلا طينًا رطبًا .. سلب الطهورية، وقد صرح به الرافعي في "الشرح الصغير".
وفي تعلق (بماءٍ) بـ (تغيُّرًا) تضمين وهو: ألا يظهر معنى البيت إلا بالآخر، وهو عيب في الشعر خلافًا للأخفش، وقس عليه نظائره.
والألف في قوله: (تغيرًا) و(وغيَّرا) للإطلاق.
وقوله: (واستثن) بمعنى: استدرك؛ إذ هو استثناء منقطع، ويمكن أن يجعل منقطعًا فيما عدا الرابعة، متصلًا فيها؛ بناءً على رأي من يجعل التغير فيما عداها سالبًا للاسم، وقد مر ما يؤخذ منه أن الراجح خلافه.
ومما يستثنى أيضًا: المتغير بملح مائي وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به لانعقاده من الماء كالجمد، بخلاف الملح الجبلي إذا لم يكن في مقر الماء أو ممره.
وقول الناظم: (أُطلق) مبني للمفعول، و(ما) من قوله: (ولا بِمَا) موصولة، أو نكرة موصوفة.
وقوله: (تُربِ) إحدى لغات التراب.
ولما أنهى الكلام على الماء الطهور والطاهر .. ذكر حكم الماء إذا حلت فيه نجاسة حال قلَّته أو كثرته، وبدأ بالأول فقال:
(ولا بماءٍ مطلقٍ حلَّته عين ... نجاسةٍ وهو بدون القُلَّتين)
(واستثن ميتًا دمه لم يسل ... أو لا يُرى بالطرف لمَّا يحصل)
1 / 122
فيهما مسألتان:
[تنجس الماء القليل إذا حلت فيه نجاسة]
الأولى: أنه لا يصح التطهير بماء مطلقٍ حلته؛ أي: حلت فيه عين نجاسة والحال أنه دون القلتين وإن كان جاريًا ولم تغيره لتنجسه بها؛ لخبر مسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه .. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده"، نهاه عن الغمس خشية النجاسة، ومعلوم أنها إذا خفيت .. لا تغير الماء، فلولا أنها تنجسه بوصولها .. لم ينهه، ولمفهوم خبر أبي داود وغيره، وقال النووي: إنه حسن، والحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين: "إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل خبثًا"، وفي روايةٍ صحيحةٍ كما قال البيهقي: "لم ينجس"، فمعنى (لم يحمل خبثًا): لم يقبله؛ لهذه الرواية.
وخرج بـ (الماء): غيره من المائع وإن كثر، ومن الجامد بتوسط رطوبة .. فإنه ينجس، وفارق كثير الماء كثير غيره بأن كثيرة قوي ويشق حفظه من النجس، بخلاف غيره وإن كثر، فإن بلغ ما تنجس بالملاقاة قلتين بماء ولو طاهرًا أو متنجسًا .. فهو طهور، وفي بعض النسخ: (وهو دون القلتين).
ووصف المصنف الماء بكونه مطلقًا قبل حلولها فيه؛ ليفيد تنجس الماء الطاهر غير الطهور بحلولها فيه بطريق الأولى.
[ما يستثنى من تنجس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه]
والثانية: أمر المصنف المخاطب بأن يستثنى من تنجس الماء القليل بحلول النجاسة فيه مسألتين:
الأولى: الميت الذي لا يسيل دمه عند شق جزء منه في الحياة؛ كذباب ونمل ونحل وعقرب وبق وقمل وبرغوث ووزغ، لا حية وضفدع .. فلا ينجس ما حل فيه وإن قل؛ أي: إن لم يطرح فيه ميتًا ولم يغيره كما يفيده كلامه؛ وذلك لخبر البخاري: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم .. فليغمسه كله؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء"، زاد أبو داود: "وإنه
1 / 123
يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، أمر بغمسه وقد يفضي إلى موته، فلو نجس .. لما أمر به.
وقيس بالذباب ما في معناه مما لا يسيل دمه، فلو شككنا في سيل دمه .. قال الغزالي في "فتاويه": فيمتحن بجنسه فيجرح للحاجة.
ولو كان مما يسيل دمه؛ لكن لا دم فيه، أو فيه دم لا يسيل لصغره .. فله حكم ما يسيل دمه، ذكره القاضي أبو الطيب.
فإن طرح فيه ميتًا ولو كان نشوؤه منه .. نجسه؛ لندرته؛ لأنه لا يشق الاحتراز عنه، وكذا لو غيره.
الثانية: النجس الذي لا يرى بالطرف - أي: البصر - لما يحصل؛ لقلته؛ كرشاش بول أو خمر .. فلا ينجس ما حل فيه؛ لمشقة الاحتراز عنه خلافًا للرافعي، ولو أرى قوي البصر ما لا يراه غيره .. قال الزركشي وغيره: فالظاهر العفو؛ كما في سماع نداء الجمعة، وكالماء في هاتين الصورتين المائع والرطب.
ويستثنى أيضًا مسائل:
منها: الحيوان غير الآدمي إذا وقع في الماء القليل وعلى منفذه نجاسة وخرج منه حيًا .. فإنه لا ينجسه، بخلاف المستجمر؛ فإنه ينجسه.
ومنها: اليسير عرفًا من دخان النجاسة، ومن الشعر النجس من غير كلب وخنزير، ومن غبار السرجين.
وقول الناظم: (يَحصُل) بكسر اللام للوزن.
ثم ذكر القسم الثاني من الماء عاطفًا على قوله: (وهو بدون القلتين) قوله:
1 / 124
(أو قُلتين بالرُّطيل الرَّملي ... فوق ثمانين قريب رطل)
(والقلتان بالدِّمشقيِّ ميه ... ونحو أرطالٍ أتت ثمانيه)
(والنجس الواقع قد غيره ... واختير في مشمسٍ لا يكره)
فيها مسألتان:
[الماء الكثير إذا تغير بالنجس الواقع فيه]
الأولى: أنه لا يصلح التطهير بالماء الكثير وهو: ما بلغ قلتين والحال أن النجس الواقع فيه قد غيَّره؛ بأن غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه تغيرًا حسيًا أو تقديريًا، يسيرًا أو كثيرًا، بمخالط أو بمجاور، أو بميتة لا يسيل جمها؛ لتنجسه بالإجماع المخصص لخبر الترمذي وقال: إنه حسن صحيح: "الماء طهور لا ينجسه شيء" كما خصصه مفهوم خبر: (القلتين).
وخرج بما ذكره: تغيره بنجاسة بقربه؛ فإنه لا يؤثر.
والقلتان بالرطل الرملي - نسبة إلى بلده بالشام -: الذي وزنه ثمان مئة درهم، قريب أحد وثمانين رطلًا.
وبالدمشقي على ما صححه الرافعي من أن رطل بغداد مئة وثلاثون درهمًا: مئة وثمانين أرطال وثلث رطل، وعلى ما صححه النووي من أنه مئة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم: مئة وسبعين أرال وسبع رطل.
وبالبغدادي: خمس مئة رطل.
وبالمصري على ما صححه الرافعي: أربع مئة وأحد وخمسون رطلًا وثلث رطل وثلثا أوقية لا أربعة أخماس أوقية كما توهمهم بعضهم، وعلى ما صححه النووي: أربع مئة وستة وأربعون رطلًا وثلاثة أسباع رطل.
وبالمساحة في المربع: ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا.
وفي بعض النسخ بدل البيت الثاني:
(أو قلتين بالدمشقي هيه ... ثمان أرطالٍ أتت بعد ميه)
1 / 125
والماء الجاري وإن كانت جرياته متصلة حسًا .. فهي منفصلة حكمًا؛ إذ كل جرية طالبة لما أمامها، هاربة مما وراءها، فلو وقع فيها نجس .. فكما لو وقع في ماء راكد، حتى لو كانت قليلة .. تنجست بوصوله إليها وإن بلغت مع ما أمامها وخلفها قلتين؛ لتفاصل أجزاء الجاري؛ فلا يتقوى بعضه ببعض، بخلاف الراكد والجرية إذا بلغ كل منهما قلتين.
ولو وقع فيه وهي قليلة نجس جامد: فإن كان موافقًا لجريانها .. تنجست دون ما أمامها وما خلفها، أو واقفًا أو جريها أسرع .. فمحله وما أمامه مما مر عليه نجس وإن طال امتداده إلا أن يتراد أو يجتمع في حفره، وعليه يقال: ماء هو ألف قلة تنجس بلا تغير.
والجرية التي تعقب جريه النجس الجاري .. تغسل المحل، ولها حكم الغسالة، حتى لو كانت النجاسة مغلظة .. فلا بد من سبع جريات.
[حكم الماء المشمس]
الثانية: الماء المشمس؛ أي: ما سخنته الشمس بحدتها بمنطبع؛ أي: مطرق من غير النقدين في قطر حار كمكة .. الأصح: أنه يكره شرعًا تنزيهًا استعماله في البدن طهارة وغيرها حال حرارته إذا وجد غيره؛ لما روى البيهقي: أنه ﷺ قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس: "يا حميراء؛ لا تفعلي هذا؛ فإنه يورث البرص"، ولما روى الشافعي عن عمر: أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: (إنه يورث البرص).
والمعنى: أن الشمس بحدتها تفصل من المنطبع زهومة تعلو الماء فإذا لاقت البدن .. خيف عليه البرص، بخلاف المسخن بالنار؛ لذهاب الزهومة بها.
والعلة تقتضي أنه غير الماء من المائعات كالماء، وبه جزم الزركشي، ولو استعمله في طبخ طعام .. كره إن كان مائعًا، وإلا .. فلا، نقله في "المجموع" عن الماوردي والروياني وأقره، وظاهر كلام الجمهور: أنه يكره في الأبرص؛ لزيادة الضرر، وفي الميت؛ لأنه يحترم كما في الحياة.
قال البلقيني وغيره: وغير الآدمي من الحيوانات إن كان البرص يدركه كالخيل، أو يتعلق بالآدمي منه ضرر .. اتجهت الكراهة، وإلا .. فلا.
1 / 126
وقد ذكر المصنف: أنه لا يكره استعمال المشمس على المختار؛ أي: عند النووي دليلًا في "روضته" وغيرها، وصححه في "تنقيحه"، وقال في "مجموعة": إنه الصواب الموافق للدليل ولنص "الأم"، والخبر ضعيف باتفاق المحدثين، وكذا الأثر؛ فإنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه إلا الشافعي فوثقه، فثبت أنه لا أصل لكراهته، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء. انتهى.
وأجيب بأن دعواه أن الموافق للدليل ولنص "الأم" عدم الكراهة .. ممنوعة، وأثر عمر رواه الدارقطني بإسناد آخر صحيح، على أن الحصر في قوله: "إلا الشافعي فوثقه) .. ممنوع، بل وثقه ابن جريج وابن عدي وغيرهما كما ذكره الإسنوي.
وقوله: (ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء) شهادة نفي لا يرد بها قول الشافعي، ويكفي في إثباته قول السيد عمر الذي هو أعرف بالطب من غيره، وتمسكه به من حيث إنه خبر لا تقليد.
ومما يكره استعماله: شديد الحرارة والبرودة؛ لمنعه الإسباغ، فإن فقد غيره وضاق الوقت .. وجب، أو خاف منه ضررًا .. حرم كما نبه عليه المحب الطبري، وكل ماء مغضوب عليه كمياه ثمود إلا بئر الناقة، وماء ديار قوم لوط؛ لخسفها، وماء ديار بابل؛ لخبر أبي داود أنها أرض صار كنقاعة الحناء، وماء بئر برهوت؛ لخبر ابن حبان: "شر بئر في الأرض برهوت".
(وإن بنفسه انتفى التغير ... والماء - لا كزعفرانٍ - يطهر)
فيه مسألتان:
[إذا انتفى تغير الكثير بنفسه]
الأولى: إذا انتفى تغير الماء الكثير بالنجس؛ بأن لم يدرك بنفسه لا بعين كطول مكث، وهبوب ريح، أو بماء نبع فيه أو صب عليه ولو متنجسًا .. طهر؛ لانتفاء علة التنجس وهي التغير، ولا يضر عود تغيره إذا خلا عن نجس جامد.
1 / 127
[إذا انتفى تغير الكثير بعين ساترة]
الثانية: إذا زال التغير ظاهرًا بعين ساترة له؛ كأن زال بنحو تراب أو جص، أو زال تغير لونه بالزعفران، أو ريحه بالمسك، أو طعمه بالخل .. لم يحكم بطهارته؛ للشك في أن التغير زال أو استتر، بل الظاهر: الاستتار.
وقضية العلة: أنه لو صفا الماء ولم يبق به تغير .. طهر، وبه صرح في "المجموع" في التراب، ومثله غيره.
(وكلُّ ما استعمل في تطهير ... فرضٍ وقَلَّ ليس بالطَّهور)
[الماء المستعمل]
فيه مسألة:
وهي: أن الماء المستعمل في تطهير فرض من رفع حدث أو إزالة نجس وقد قلَّ .. غير طهور؛ لانتقال المنع إليه، ولأن السلف لم يجمعوه في أسفارهم لاستعماله ثانيًا مع احتياجهم إليه وعدم استقذاره في الطهارة، بل عدلوا إلى التيمم.
والمراد بـ (الفرض): ما لابد منه أثم بتركه أم لا، فيشمل ما اغتسلت به الكتابية من حيض أو نفاس؛ لتحل لحليلها المسلم، وطهارة الحنفي ولو بلا نية، وطهارة الصبي، وتطهير الوجه قبل بطلان التيمم، وتطهير الخبث المعفو عنه؛ إ ذ هو فرض أصالة، والغسل بدل المسح، وغسل الميت.
وخرج بـ (الفرض): الماء المستعمل في النفل؛ كالأغسال المسنونة، وغسل الرجلين في الخف قبل بطلان مسحهما .. فإنه طهور.
وخرج بقوله: (وقَلَّ): ما لو بلغ قلتين .. فإنه طهور، ولو انغمس جنب في ماء دونهما، ثم نوى .. ارتفعت جنابته وصار مستعملًا بالنسبة لغيره، ولا يصير مستعملًا بالنسبة إليه حتى يخرج منه، حتى لو أحدث في حال انغماسه .. جاز ارتفاعه به؛ لأن صورة الاستعمال باقية، والماء حال استعماله باقٍ على طهوريته، ولو نوى قبل تمام انغماسه .. ارتفعت جنابة الجزء الملاقي، وله أن يتمم انغماسه وترتفع جنابته، فلو غرف بإناء أو بيده، ثم غسل الباقي .. لم ترتفع جنابته.
1 / 128
ولو انغمس فيه جنبان ونويا معًا بعد تمام الانغماس .. ارتفعت جنابتهما، أو نويا مرتبًا .. ارتفعت جنابة الأول لا الثاني، ولو نويا معًا بعد غسل جزء منهما .. ارتفعت جنابة الجزء صار الماء مستعملًا بالنسبة إليهما.
والماء حال تردده على عضو ليس بمستعمل بالنسبة إليه، ولو جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر ولو من يد إلى أخرى .. فمستعمل، ولو انفصل من عضو الجنب إلى عضو آخر .. فالأصح أنه مستعمل، ولو غمس المتوضئ يده في الإناء قبل فراغ الوجه .. لم يصر مستعملًا، وكذا بعده إن نوى الاغتراف، وإلا .. صار مستعملًا، والجنب بعد النية كالمحدث بعد غسل وجهه، ولو غسل كل منهما بما في كفه باقي يده .. أجزأه، بخلاف ما لو غسل به غيرها .. فإنه لا يكفي.
* * *
ثم لما ذكر تنجس الماء بالنجاسة .. استدعى ذكرها فقال:
1 / 129
بابُ النّجاسة
أي: وإزالتها.
(الباب): اسم لجملة من الكتاب مشتملة على فصول غالبًا، و(الفصل): اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل.
و(النجاسة): تطلق على الحكم الشرعي الذي هو نقيض الطهارة، وعلى العين النجسة، وهي بهذا الإطلاق لغةً: الشيء المستقذر، وشرعًا: كل عين حرم تناولها على الإطلاق في حالة الاختيار مع سهولة تمييزها، لا لحرمتها، ولا لاستقذارها، ولا لضررها في بدن أو عقل.
فاحترز بـ (الإطلاق) عما يباح قليله؛ كبعض النباتات السمية، وبـ (حالة الاختيار) عن حالة الضرورة، فيباح فيها تناول النجاسة، وبـ (سهولة تمييزها) عن دود الفاكهة ونحوها، فيباح تناوله معها، وهذان القيدان للإدخال لا للإخراج، وبالبقية عن الآدمي، وعن المخاط ونحوه، وعن الحشيشة المسكرة، والسم الذي يضر قليله وكثيره، والتراب؛ فإنها لم يحرم تناولها لنجاستها، بل لحرمة الآدمي، واستقذار المخاط ونحوه، وضرر البقية.
وعرفها المصنف بالعدِّ؛ ليعلم طهارة غيره على الأصل فقال:
(المُسكِر المائع، والخنزير ... والكلب مع فرعيهما، والسُّؤر)
قوله: (المُسكِر) وما عطف عليه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي؛ أي: النجاسة.
وقد أفاد كلامه نجاسة أمور:
[نجاسة المسكر المائع]
الأول: المسكر المائع؛ كنبيذ وخمر ولو مستحيلة في الحبات ومحترمة، وهي: ما عصر لا بقصد الخمر، أما الخمر .. فتغليظًا وزجرًا عنها؛ كالكلب، ولقوله تعالى: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ﴾، والرجس شرعًا: هو النجس، خرجت الثلاثة المقرونة بها بالإجماع، فبقيت هي على النجاسة، وأما النبيذ .. فقياسًا على الخمر؛ بجامع الإسكار بمائع.
1 / 130
وخرج بـ (المائع): البنج والحشيشة ونحوهما؛ فإنها حرام وليست بنجسة، وذهب جمع إلى أنها مخدرة لا مسكرة، ولا ترد عليه الخمر المنعقدة ولا الحشيشة المذابة نظرًا إلى الأصل فيهما.
[نجاسة الخنزير]
الثاني: الخنزير؛ لأنه أسوأ حالًا من الكلب؛ لأنه لا يقتني بحال، ولأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه، ومنصوص على تحريمه.
[نجاسة الكلب]
الثالث: الكلب ولو معلمًا؛ لخبر "الصحيحين": "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم .. قليرقه، ثم ليغلسه سبع مرات"، ويخبر مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب .. أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".
وجه الدلالة: أنه لو لم يكن نجسًا .. لما أمر بإراقته؛ لما فيها من إتلاف المال المنهي عن إضاعته، ولأن الطهارة: إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعينت طهارة الخبث، فثبتت نجاسة فمه وهو أطيب أجزائه، بل هو أطيب الحيوان نكهة؛ لكثرة ما يلهب فبقيتها أولى، وفي الحديث: أنه ﷺ دعي إلى دار قوم فأجاب، ثم دعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: "إن في دار فلان كلبًا"، قيل: وإن في دار فلان هرة؟ ! فقال: "الهرة ليست بنجسة" رواه الدارقطني والحاكم.
وإراقة ما ولغ فيه .. واجبة إن أريد استعمال الإناء، وإلا .. فمستحبة كسائر النجاسات إلا الخمر غير المحترمة فتجب إراقتها؛ لطلب النفس تناولها.
[نجاسة فرع الكلب والخنزير]
الرابع: الفرع لكل من الكلب والخنزير مع الآخر، أو مع حيوان طاهر تبعًا لأصله وتغليبًا للنجاسة، وعلله في "المهذب" بأنه مخلوق من النجاسة فكان مثلها، قال في "شرحه": ولا ينتقض بالدود بالمتولد منها؛ لأنا نمنع أنه خلق من نفسها، وإنما تولد فيها كدود الخل
1 / 131
لا يخلق من نفس الخل، بل يتولد فيه، قال: ولو ارتضع جديٌ كلبةً أو خنزيرةً فنبت لحمه على لبنها .. لم ينجس على الأصح.
والفرع يتبع الأب في النسب، والأم في الرق والحرية، وأشرفها في الدين، وإيجاب البدل وتقرير الجزية، وأخفهما في عدم وجوب الزكاة، وأخسهما في النجاسة، وتحريم الذبيحة والمناكحة.
الخامس: السؤر - بالهمزة ويبدل واوًا -: البقية؛ أي: بقية الكلب والخنزير وفروعهما؛ كعظم وشعر ودم وبول، ودمع وعرق وسائر فضلاتها؛ لأن ما انفصل من نجس العين .. فهو نجس، وقيل: السؤل فضله الشرب.
(وميتةٌ مع العظام والشعر ... والصوف، لا مأكولةٌ ولا بشر)
أفاد كلامه أمورًا:
[ناسة الميتة]
الأول: نجاسة الميتة وإن لم يسل دمها؛ لقوله تعالى: ﴿حُرِّمت عليكم الميتة﴾، وتحريم ما ليس بمحترم ولا مستقذر ولا ضرر فيه .. يدل على نجاسته، و(الميتة): ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية.
[نجاسة عظم الميتة وشعرها وصوفها]
الثاني: نجاسة عظمها وشعرها وصوفها؛ لأن كلًا منها تحله الحياة، ولأن العظم جزء النجس، والشعر والصوف متصلان بالحيوان اتصال خلقه فكان كالأعضاء، وكالعظم: الظلف والظفر والحافر والقرن، ومثل الشعر والصوف: الوبر والريش.
[طهارة الميتة المأكولة]
الثالث: طهارة الميتة المأكولة من سمك وجراد وجنين مذكاة، وصيد لم تدرك ذكاته، وبعير نادٍّ مات بالسهم؛ لقوله تعالى: ﴿أُحِل لكم صيد البحر وطعامه﴾، ولقوله ﷺ في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه الترمذي وغيره وصححوه، ولخبر
1 / 132
"الصحيحين" عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل معه الجراد)، وصح عن ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال"، وهو في حكم المرفوع، بل رفعه ابن ماجه وغيره، ولكن بسند ضعيف، ولخبر بن حبان وصححه: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، وفي "الصحيحين": "إذا أرسلت كلبك وسميت، وأمسك وقتل .. فكل، وإن أكل .. فلا تأكل؛ فإنما أمسك على نفسه"، وفيهما أيضًا من رواية رافع بن خديج: أن بعيرًا ندَّ فرماه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي ﷺ: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم .. فاصنعوا به هكذا".
على أن الجنين والصيد والبعير ليست ميتة، بل جعل الشارع هذا ذكاتها؛ ولهذا صرح في خبر الجنين بأنه مذكى وإن لم تباشره السكين، ذكره في "المجموع".
[طهارة ميتة البشر]
الرابع: طهارة ميتة البشر، سواء أكان مسلمًا أم كافرًا، لخبر الحاكم وصححه على شرط الشيخين: "لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا"، ولقوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾، وقضية تكريمهم: ألا يحكم بنجاستهم بالموت، وأما قوله تعالى: ﴿إنما المشركون نجسٌ﴾ .. فالمراد به: نجاسة الاعتقاد، أو اجتنابهم كالنجس لا نجاسة الأبدان؛ ولهذا: (ربط النبي ﷺ الأسير الكافر في المسجد)، وقد أباح الله تعالى طعام أهل الكتاب.
واعلم: أن فضلة الحيوان على قسمين:
أحدهما: ما له اجتماع واستحالة في الباطن كالدم، وهو نجس من مأكول اللحم وغيره إلا ما استثنى.
1 / 133
ثانيهما: ما ليس كذلك، بل يرشح رشحًا، كالعرق والدمع واللعاب والمخاط، وهو طاهر من الحيوان الطاهر، نجس من النجس، وسيأتي في كلامه الإشارة إلى القسم الثاني، وقد ذكر من القسم الأول أمورًا فقال:
(والدَّم، والقيء، وكل ما ظهر ... من السبيلين سوى أصل البشر)
أفاد كلامه أمورًا:
[نجاسة الدم المسفوح]
الأول: نجاسة الدم المسفوح ولو من سمك وجراد، أو متحلبًا من كبد وطحال؛ لقوله تعالى: ﴿أو دمًا مسفوحًا﴾ أي: سائلًا، ولقوله ﷺ في دم الاستحاضة: "فاغسلي عنك الدم وصلي" رواه الشيخان.
وأما الكبد والطحال والدم المحبوس في ميتة السمك والجراد والجنين .. فطاهرة، وكذلك المني واللبن إذا خرجا على هيئة الدم، والدم الباقي على اللحم وعظامه نجس معفو عنه؛ لأنه من الدم المسفوح وإن لم يسل لقلته، ولعله مراد من عبر بطهارته.
[نجاسة القيء]
الثاني: نجاسة القيء؛ لأنه من الفضلات المستحيلة، وسواء أتغير أم لا على الأصح.
[نجاسة ما خرج من السبيلين]
الثالث: نجاسة كل ما خرج من السبيلين؛ أي: القبل والدبر أو أحدهما مما له اجتماع واستحالة في الباطن؛ كبول وروث، ولو من سمك وجراد ومأكول اللحم، وعذرة ومذي وودي، ونجاسة بعضها بالنص، وبعضها بالإجماع، وبعضها بالقياس.
وأما أمره ﷺ في خبر العرنيين بشرب أبوال الإبل .. فللتداوي، وهو جائز بالنجاسات غير الخمر.
ولو أكلت بهيمة حبًا ثم ألقته صحيحًا؛ بحيث لو زرع لنبت .. فطاهر العين؛ كدود خرج من فرج، وإلا .. فنجسها.
1 / 134
قال في "المجموع": والماء السائل من فم النائم؛ إن كان من معدته كأن خرج منتنًا بصفرة .. فنجس، أو من اللهوات كأن انقطع عند طول النوم .. فطاهر، وكذا إن شك، وقياس المذهب: العفو عمن عفت بلواه به؛ كدم البراغيث، قال: وسألت الأطباء عنه فأنكروا كونه من المعدة.
ثم استثنى المصنف من ذلك: أصل البشر من منيه وعلقته ومضغته، فإنه طاهر؛ تكرمة له، ولأنها مبدأ خلقه كالتراب، وفي "مسلم" عن عائشة ﵂: (كنت أفرك المني من ثور رسول الله ﷺ فيصلي فيه)، وفي رواية لابني خزيمة وحبان في "صحيحهما": (وهو يصلي)، وما ورد من أنها كانت تغسله .. حملوه على الندب.
وما أفاده كلامه من نجاسة مني غير الآدمي من كل حيوان طاهر: تبع فيه كـ"أصله" ترجيح الرافعي، والأصح عند النووي: طهارته؛ لأنه أصل حيوان طاهر فأشبه أصل الآدمي.
والأصح: طهارة العلقة والمضغة، ورطوبة الفرج من كل حيوان طاهر.
(وجزء حيٍّ - كَيَدٍ مفصول - ... كميتة، لا شعر المأكول)
(وصوفه وريشه وريقته ... وعرقٌ والمسك ثم فأرته)
فيهما أربع مسائل:
[حكم ما انفصل من الحيوان حال حياته]
الأولى: الجزء المنفصل من الحيوان حال حياته حكمه كحكم ميتته؛ إن طاهرة .. فطاهر، وإن نجسة .. فنجس؛ كاليد المنفصلة من الحيوان؛ فهي طاهرة من الآدمي نجسة من غيره؛ لخبر: "ما قطع من حي .. فهو ميت" رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين،
1 / 135
فجزء البشر والسمك والجراد طاهر دون جزء غيرها.
وقوله: (مفصول) فيه تذكير اليد على تأويلها بنحو الجزء، وإلا .. فهي مؤنثة.
وقوله: (كميته) ليست هاؤه للتأنيث، بل هي ضمير أضيف إليه (ميت) بفتح الميم وإسكان الياء.
[حكم شعر المأكول وصوفه وريشه إذا انفصل في حياته]
الثانية: شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره المنفصلات حال حياته .. ليست كميتة في النجاسة، بل هي طاهرة؛ لعموم الحاجة إليها، ولقوله تعالى: ﴿ومن أصوافها﴾ الآية، وهي مخصصة للخبر المتقدم، وما على العضو المبان من شعر ونحوه .. نجس كما يؤخذ من كلامه؛ لأنه شعر العضو والعضو غير مأكول.
[حكم ما يرشح من الحيوان]
الثالثة: ما ليس له اجتماع واستحالة في الباطن، بل يرشح رشحًا، كالريق والعرق والدمع والمخاط .. طاهر من الحيوان المأكول، وكذا من كل حيوان طاهر، نجس من غيره.
[حكم المسك وفأرته]
الرابعة: المسك وفأرته - بالهمزة وتركه - طاهران إذا انفصلا حال حياة الظبية؛ لخبر: "المسك أطيب الطيب"، وفي "الصحيحين": (أن وبيص المسك كان يرى من مفرقه ﷺ، ولانفصال الفأرة بالطبع كالجنين، ولئلا يلزم نجاسة المسك، وهي: خراج بجانب سرة الظبية كالسلعة فتحتك حتى تلقيها، أما إذا انفصلا بعد الموت .. فنجسان كاللبن، وفارقا بيض الميتة المتصلب بنموه بعد الموت بخالفهما.
وعلم من حصره النجاسة فيما ذكره: طهارة العنبر؛ كما نص عليه في "الأم" وغيرها، وطهارة الزباد كما صوبها في "المجموع".
1 / 136
(وتطهر الخمر إذا تخللت ... بنفسها وإن غلت أو نقلت)
(وجلد ميتةٍ - سوى خنزير بر ... والكلب - أن يُدبغ بحرِّيفٍ طهر)
أفاد كلامه: أن نجس العين يطهر في صورتين:
[طهارة الخمر إذا تخللت بنفسها]
الأولى: الخمر ولو غير محترمة إذا تخللت بنفسها؛ أي: صارت خلًا بلا مصاحبة عين؛ لمفهوم خبر مسلم عن أنس قال: سئل النبي ﷺ: أنتخذ الخمر خلًا؟ قال: "لا"، وروى البيهقي عن عمر: أنه خطب فقال: (لا يحل خل من خمر أُفسدت حتى يبدأ الله إفسادها)، ولزوال الشدة من غير نجاسة خلفتها.
و(أفسدت) بضم الهمزة؛ أي: خللت، و(يبدأ إفسادها) بفتح الياء أي: يجعلها خلًا بلا علاج آدمي، وحيث حكم بطهارتها .. حكم بطهارة دِنِّها تبعًا لها؛ للضرورة وإلا .. لم يوجد خل طاهر من خمر، وإن غلت الخمر فارتفعت إلى رأي الدِّن، ثم عادت إلى أسفل وتخللت .. حكم بطهارة ما ارتفعت فيه من الدن؛ للضرورة.
قال البغوي في "فتاويه": اما إذا ارتفعت بفعله .. فلا يطهر الدن؛ إذ لا ضرورة، وكذا الخمر؛ لاتصالها بالمرتفع النجس، أو نقلت من ظل إلى شمس، أو عكسه، أو بفتح رأي الدن؛ استعجالًا للحموضة .. فإنها تطهر؛ لأن الفعل الخالي عن العين لا يؤثر؛ بناء على أن علة بقاء نجاستها تنجسها بالعين كما سيأتي، لا تحريم التخليل الدال عليه الخبر والأثر السابقان.
أما إذا تخللت بمصاحبة عين طرحت فيها، أو وقعت فيها بنفسها حال الخمرية أو قبلها وإن لم تؤثر في التخليل ك حصاة وماء .. فلا تطهر؛ لتنجسها بعد تخللها بالعين التي تنجست بها، ولا ضرورة، بخلاف الدِّن.
قال البغوي في "فتاويه": ولو نقلت من دن إلى آخر .. طهرت بالتخلل، بخلاف ما لو أخرجت منه ثم صب فيه عصير فتخمر ثم تخلل .. لا يطهر.
1 / 137
ومفهوم كلامهم: أنها تطهر بالتخلل إذا نزعت العين منها قبله، وهو كذلك، إلا أن تكون العين المنزوعة نجسة كعظم ميتة .. فإنها لا تطهر؛ بناء على أن النجس يقبل التنجس، وهو الأصح.
وتعبيره بـ (الخمر): يخرج النبيذ كالمتخذ من التمر والزبيب؛ فإنه لا يسمى خمرًا حقيقة عند الأكثرين كما قاله الشيخان في (الأشربة)، وقد صرح القاضي أبو الطيب في كتاب "الرهن" بأن النبيذ لا يطهر بالتخلل؛ لتنجس الماء به حال الاشتداد فينجسه بعد انقلابه خلًا، وأقره عليه في "المطلب"، لكن يؤخذ من كلام البغوي أنه يطهر؛ لأن الماء من ضرورته فإنه قال: لو ألقى الماء في عصير العنب حالة عصره .. لم يضر بلا خلاف؛ لأن الماء من ضرورته. انتهى.
ومراده بعصير العنب: العنب الذي اعتصر ماؤه؛ بقرينة قوله: حالة عصره؛ غذ يحتاج في استقصاء عصره إلى صب ماء عليه؛ لإخراج ما يبقى فيه، فالماء من ضرورته، وما أفاده كلام البغوي من الطهارة اختاره السبكي وغيره، وهو الأصح، وبه أفتيت، بل هو الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما في (السلم) حيث جزموا بصحة السلم في خل التمر والزبيب.
وقول المصنف: (غلت) بالغين المعجمة أو المهملة.
[طهارة جلد الميتة بالدباغ]
الثانية: الجلد الذي تنجس بالموت .. يطهر ظاهره وباطنه بالدباغ، وهو: نزع الفضلات كالدم واللحم بحريف طاهر أو نجس كقرظ وذرق طير؛ بحيث لو نقع الجلد في ماء .. لم يعد إليه النتن؛ لخبر مسلم: "إذا دبغ الإهاب .. فقد طهر"، وخبر أبي داود وغيره بإسناد حسن: أنه ﵊ قال في شاة ميتة: "لو أخذتم إهابها" قالوا: إنها ميتة؟ ! فقال: "يطهرها الماء والقرظ"، ورووا أيضًا بإسناد حسن: (أمرنا رسول الله ﷺ: أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت).
1 / 138