وتغيظت النار؛ وسل الغرار؛ وسلب القرار؛ خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النار، ورنت القسي وغنت الأوتار. ورقصت مران المراد، لجلاء عرائس الجلاد. وبرزت البيض من ملئها في الملأ عارية، ورتعت السمر لكلئها من الكلى راعية.
فرجا الفرنج فرجا، وطلب طلبهم المحرج مخرجا. فكلما خرجوا جرحوا، وبرح بهم حر الحرب فما برحوا. وحملوا وهم ظماء، ومالهم سوى ما بأيديهم من ماء الفرند ماء. فشوتهم نار السهام وأشوتهم، وصممت عليهم قلوب القسي القاسية وأصمتهم. وأعجزوا وأزعجوا، وأحرجوا وأخرجوا. وكلما حملوا ردوا وأردوا، وكلما ساروا وشدوا؛ أسروا وشدوا. وما دبت منهم نملة، ولا ذبت عنهم حملة،
واضطرموا واضطربوا، والتفوا والتهبوا. وناشبهم النشاب فعادت اسودهم فنافذ، وضايقتهم السهام فوسعت فيهم الخرق النافد. فآووا إلى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار، فأحاطت بحطين بوارق البوار. ورشفتهم الظبا، وفرشتهم على الربا. ورشقتهم الحنايا، وقشرتهم المنايا، وقرشتهم البلايا، ورقشتهم الرزايا، وصاروا لردى درايا، وللقضايا رمايا.
ولما أحس القومص بالكسرة، حسر عن ذراع الحسرة. واقتال من العزيمة، واحتال في الهزيمة. وكان ذلك قبل اضطراب الجمع واضطرام الجمر، واحتداد الحرب. فخرج بطلبه يطلب الخروج، واعوج إلى الوادي وما ود أن يعوج. ومضى كومض البرق، ووسع خطى خرقه قبل اتساع الخرق. وافلت في عدة معدودة، ولم يلتفت إلى ردة مردودة. وغاب حالة حضور الوغى، ونابه الرعب الذي نوى الهزيمة به وما ونى.
ثم استجرت الحرب، واشتجر الطعن والضرب، وأحيط بالفرنج من حواليهم بما حووا إليهم، ودارت دائرة الدوائر عليهم. وشرعوا في ضرب خيامهم، وضم نظامهم. فحطوا على حطين مضاربهم، وفلت حدود الرماة الكماة مضاربهم. وأعلجوا عن نصب الخيم ورفعها، وشغلوا عن أصل الحياة وفرعها. وترجوا خيرا فترجلوا عن الخيل، وتجلدوا وتجالدوا فجرفهم السيف جرف السيل. وأحاط بهم العسكر إحاطة النار بأهلها، ولجئوا إلى حزم الأرض فبلغ حرامهم الطبيين من سهلها. وأسر الشيطان وجنوده، وملك الملك وكنوده.
وجلس السلطان لعرض أكابر الاسارى، وهم يتهاودون في القيود تهادى السكارى. فقدم بدائه مقدم الداوية، ومعه عدة كثيرة منهم ومن الاسبتارية. وأحضر الملك (كي) وأخوه (جفري) و(اوك) صاحب جبيل و(هنفري). و(البرنس ارناط) صاحب الكرك وهو أول من وقع في الشرك. وكان السلطان قد نذر دمه، وقال
لأعجلن عند وجدانه عدمه.
فلما حضر بين يديه، أجلسه إلى جنب الملك والملك بجنبه، وقرعه على غدره وذكره بذنبه، وقال له كم تحلف وتحنث، وتعهد وتنكث. وتبرم الميثاق وتنقض،
1 / 50