Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Nau'ikan
ولا شك أن سكوتهما في نفسه متى قرن إلى صمت غيرهم من الكتاب، وهم كثر، له دلالة في الأفهام، ولكن ليس هذا مقام القول في الوقت الذي ضاعت فيه تلك المكتبة العظيمة، وسيأتي مقامه في موضع آخر من هذا الكتاب. وأما هنا فحسبنا أن نظهر الأسف على أننا إذا قرأنا كتاب «حنا مسكوس» «مسارح الروح»، أو إذا قرأنا ما بين أيدينا من كتب صفرونيوس الضخمة؛ لا نجد في أي موضع منها إشارة واحدة نعرف منها أكانت تلك المكتبة لم تزل إلى أيامهما باقية في السرابيوم أم لم تكن.
ولكن كل شيء يذكر كتب الإسكندرية في هذا الوقت أو قريبا منه له في بحثنا هذا قيمة عظمى، ولو كان قطعة من دليل أو نتفة من خبر؛ وعلى ذلك فقد يكون لنا العذر إذا نحن أوردنا ذكر مجموعة أخرى من الكتب، وهي مجموعة مطران «أميدو» السوري «مورو باركستانت» في النصف الأول من القرن السادس. قيل في وصفه إنه كان «فصيحا يتكلم اليونانية»، ولكنه «نفي إلى «بطرة» بعد أن أقام في مقر رئاسته للدين مدة قصيرة، ثم نفي بعد ذلك إلى الإسكندرية فأقام بها حينا، وجمع مكتبة تحوي كثيرا من الكتب القيمة، يجد فيها من يرغب في العلم من أهل البحث والفهم فوائد جليلة. وقد نقلت هذه الكتب بعد موته إلى خزانة كنيسة «أميدو»، وما زال يتعمق في القراءة وهو في الإسكندرية حتى لحقه السبات.» ومن هذه النبذة الهامة التي جاءت في كتاب «زكريا المتليني»
20
يمكننا أن نستخلص أمرين؛ الأول: أن الإسكندرية كانت إلى ذلك الوقت سوقا رائجة لمن أراد أن يجمع الكتب. والثاني: أن إصدار الكتب إلى البلاد الأخرى كان مباحا.
على أن إقبال أهل العلم في الإسكندرية لم يكن على آداب الإغريق وفقه الدين وحدهما؛ فقد كانت مدينة بطليموس وإقليدس لا تزال مشهورة بخدمتها لعلم الفلك، معروفة بمهارة من فيها من علماء الرياضة وعلم الحيل،
21
وكان فيها من لا يزال يمارس التنجيم. ولم يخل ذلك من فائدة للعلم؛ لأن هؤلاء المنجمين كانوا على شيء من العلم بالنجوم، وكان الملوك وحكام البلاد يرسلون من كل أقطار العالم إلى رهبان الصحاري لينبئوهم بما في ضمير الغيب لهم، وكانوا في ذلك يعتمدون على علم الرهبان بالكواكب أكثر من اعتمادهم على ربانيتهم، ولم يخل هؤلاء المنجمون من التأثير في أمور السياسة. وكان أكبر علماء الفلك في ذلك الوقت «إسطفن الإسكندري»، ولا يزال كتابه في علم الفلك باقيا، وهو معروف أيضا بدرايته بالتنجيم، ولو صح أنه تنبأ بمجيء دولة الإسلام
22
لكان من المؤكد أن كثيرين من سرعان أهل وطنه صدقوا ما قاله منذ سمعوه، وداخلهم خوف خلع أفئدتهم ووهن من قوتهم عندما جاء وقت النضال والبلاء، ولكن «إسطفن» كان فذا في الرجال، ويلقبونه ب «حكيم العالم» و«علامة الزمان»، وليست درايته بالتنجيم لتزيد في قدره إلا قليلا. وكان علم تقويم البلدان من فروع العلم المعروفة في ذلك الوقت؛ فقد زادت معرفة الناس بالبحار الشرقية بفضل رحلات الكشف التي قام بها «كزماس» المعروف ب «البحار الهندي»، وكان تاجرا من أهل الإسكندرية جريئا على المخاطر، قام بسياحات علمية طويلة حول بلاد العرب والهند، دفعه إليها حبه للأسفار والاطلاع على مجاهل البلاد أكثر مما دفعه إليها حب المال والربح، وقد مات قبل ذلك الوقت الذي نصفه ببضع سنين، غير أن ما كتبه كان لا يزال فيه باقيا في أيدي الناس يعجبون به، ولكن من سوء حظنا أن أكثر ما كتبه وأعظمه قيمة ضاع ولم يصل إلى أيدينا.
23
Shafi da ba'a sani ba