Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Nau'ikan
ولما هرب «بيزنتيوس» وتلميذه حنا إلى الجبل، أخذا معهما مقدارا كبيرا من الخبز وماء النيل. ولما نفد منهما الماء لقيا مشقة عظيمة؛ لأنهما لم يجرآ على الاقتراب من النيل حتى ذهب «بيزنتيوس» تحت جنح الليل وهو حذر يترقب وأخذ الماء. وما زالا في ذلك المخبأ زمنا طويلا يصليان إلى الله نهارا وليلا، ويدعوانه أن ينجي قومهما من أسر تلك الأمم الظالمة، ويفك عنهم غلها. وكان كل ذلك قبل أن يأخذ الفرس مدينته «قفط». فلما أن أدركوها وصارت في يدهم، هرب «بيزنتيوس» موغلا في الصحراء نحو ثلاثة أميال أخرى، فوجد الرفيقان هناك بابا مفتوحا في عرض الجبل فدخلاه، وكان يفضي إلى حجرة مساحتها سبعون قدما مربعا، وكان علوها يناسب سعتها، وكلها نقر في صخر الجبل، تدعمها ست دعائم أو أعمدة، وكانت هذه مدفنا به عدد عظيم من الجثث المحنطة مضطجعة ضجعتها ، مطمئنة في توابيتها.
فعزم «بيزنتيوس» على أن يقيم هناك وحده، وأمر تلميذه حنا أن يذهب عنه، على أن يغدو عليه مرة كل أسبوع بكيل من الدقيق ومقدار من الماء. فلما أزمع حنا السير وجد قطعة من الرق ملفوفة، فناولها للمطران، فلما قرأها وجد بها أسماء من كانوا في ذلك المدفن من الموتى. والاعتقاد الشائع أن هذه الصحيفة كانت كتابتها بلغة مصر القديمة (الهيروغليفية)؛
27
ومن ثم يقولون إن تلك الكتابة كانت لا تزال معروفة إلى القرن السابع على الأقل، ولكن شيئا من ذلك لا يأتي ذكره في الترجمة القبطية (التي نحن بصددها). وعلى كل حال قد جاء في القصة بعد ذلك أنه لما عاد حنا إلى المغارة سمع مولاه يتكلم فأصغى إليه، فألفاه يحدث إحدى الجثث وقد خرجت من تابوتها ترجو منه الشفاعة، قائلة إنها كانت هي وذووها جميعا من اليونانيين الذين كانوا يعبدون الأوثان. وهذه القصة على ما بها من خرافة تدل على أن التحنيط كان لا يزال متبعا إلى القرن الثاني أو الثالث كما يدل عليه ذكر أكفانها، وأنها كانت من «الحرير الخالص الذي تلبسه الملوك»، وكما يدل عليه تحنيط الأصابع مفردة. ولعلنا نستطيع أن نستخلص من ذلك أن الصحيفة كانت كتابتها بالحروف اليونانية.
28
نرجع الآن إلى قصتنا؛ فإن الجثة بعد أن أتمت كلامها عادت إلى تابوتها، والذي يؤسف له أنه لا يرد بعد ذلك ذكر للفرس وما فعلوه بعد أخذ «قفط»، ولا كم من الزمن أقاموا في الصعيد. وقد عاد «بيزنتيوس» آخر الأمر إلى شعبه، ولما مات دفن في الكنيسة في قرية «بسنتي» بعد أن قاموا الليل على جنازته بالصلاة المسنونة، وقد أوصى وهو على فراش موته بكل ما عنده من الكتب إلى صديقه «موسى»، وهو الذي خلفه مطرانا على الأبرشية وكتب ترجمة حياته. وجلي أن كلا المطرانين كان على شيء من العلم، ولكنهما كانا مثل سائر أمثالهما من كتاب القبط لا ينصرفان إلا إلى قصص تافهة خرافية تذكر ما كان على أيدي القديسين من الكرامات العجيبة، فلا يحلو لهم إلا ذكر المعجزات وخوارق المألوف، ولا يذكرون حادثة حقيقية إلا عرضا أو سهوا، وإن كانت مما يرتج له العالم من حوادث وقعت تحت أنظارهم، وهم يعلمون أنها حوادث يتوقف عليها مصير بلادهم.
على أننا نستطيع أن نستخلص أمرين من تلك القصة؛ الأول: أن الفرس بلغوا في فتوحهم أبعد أطراف وادي النيل حتى أسوان. والثاني: أن المصريين القبط لم يرحبوا بهم أو يروا فيهم الخلاص، بل كانوا يرونهم بعين الجزع والمقت، وحق لهم أن يفعلوا ذلك.
وكانت كتابة قصة «بيزنتيوس» في القرن السابع. وإليك صحيفة أخرى في المعنى ذاته تاريخها بعد تاريخ القصة الآنفة، ولكنها في القرن نفسه، وهي تصف ما قاساه القبط من الفرس وصفا أدق وأكثر وضوحا، وهذه الصحيفة هي ترجمة حياة ظهرت حديثا
29
للولي القبطي المعروف «الأنبا شنودة».
Shafi da ba'a sani ba