Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Nau'ikan
حقا إنا نسمع بأنه كان في بيت المقدس قبل زحف الفرس عليها، ويقولون إنه أنقذ بعض الآثار المقدسة - الحربة والإسفنجة - من أن تدركها يد الفرس، ولكنه عاد إلى الإسكندرية بعد ذلك كما سنرى؛ فالحقيقة هي بلا شك أن هرقل أمره أن يسير إلى الشام لعله يدفع عنها الفرس، ولم يكن عنده علم بمقدار ما أتوا به من الجيوش الجرارة، فلم يستطع نيقتاس إلا أن يسرع عائدا إلى مصر.
ولكن من سوء الحظ أن تاريخ مصر في هذه الفترة عسير إدراكه؛ فإن ديوان «حنا النقيوسي» لا يذكر عنها شيئا، وعليه جل اعتمادنا إلى ذلك الوقت؛ فإن بالنسخة التي ننقل عنها نقصا كبيرا؛ إذ تغفل ثلاثين عاما من ذلك الوقت، وكأن يدا أثيمة قد عمدت إلى ذلك الكتاب فأودت بكل ما فيه ذكر لحكم هرقل. غير أننا نجد ذكر كثير من حوادث بعض أنحاء الدولة في بعض مؤلفات الأرمن،
3
أو كتب سواهم من أهل الشرق التي كتبت في هذا العصر، ولكن ما أشبه هؤلاء بمؤرخي بيزنطة في أنهم لا يذكرون إلا النزر اليسير عن مصر. على أننا نستطيع أن نلمح خلال الظلام سير الحوادث الكبرى التي عصفت بسلطان الدولة البيزنطية في مصر في أواخر حياة ذلك الإمبراطور.
فإذا نحن أردنا أن نعرف تاريخ مصر في مدة الأعوام الثلاثين التي بين ولاية هرقل وبين الفتح العربي، فلا مناص لنا من أن نلجأ على الأكثر إلى ما كتبه رجال الكنيسة أو ما كتبه رجال لهم ميول دينية قوية تجعلهم غير أمناء في رواياتهم؛ فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطرا عند الناس من أمور السياسة، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب واختلف بعضها عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانة، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين الذي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة. وكان الناس لا يكادون يحسون شيئا اسمه حب الوطن، وما كانت عداواتهم عند اختلاف الجنس والوطن لتثور ويتقد لهيبها على الأكثر إلا إذا اختلف معها المذهب الديني؛ فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ويشق إدراكها؛ فحق على مصر المسيحية قول الشاعر «جوفنال» إذ يصف ما كان بين قومه من النزاع والشقاق على أيهما أفضل في العبادة؛ عبادة التماسيح أم عبادة القطط؛ إذ قال: «كل مكان يكره الآلهة التي لجيرانه، ويعتقد أن الآلهة الحقيقية هي التي يعبدها هو.»
4
لقد تغير الزمان، ولكن الناس هم هم لم تتغير طباعهم. ومنذ كانت الأحزاب ومناظراتها قائمة على ما كان في الدين من شيع وفرق كان جل آثار العصر وما تخلف من كتبه تراجم لحياة القديسين والبطارقة، وقلما نجد فيها ذكرا لأهل الحرب أو السياسة، وعلى هذه الآثار نعتمد في معرفة تاريخ مصر في ذلك العهد.
كان في مصر في ذلك العصر ما كان فيها منذ مجلس «خلقيدونية» في سنة 451؛ وذلك أن كلتا فرقتي المسيحية بمصر كان لها بطريقها، وكانت أمورها الدينية مستقلة، ولكن هذا لم يذهب بشيء من شدة الخلاف الثائر بين الأحزاب، ولم يقلل من متاعبه. نقول هنا للمرة الثانية إن الحزبين بمصر كانا يعرفان باسمين مشهورين: أولهما حزب اليعاقبة وهم القبط، والثاني حزب الملكانية
5
وهم حزب الملك. وكان اليعاقبة على مذهب «المونوفيسيين»، وأكثرهم وإن لم يكونوا جميعا من الجنس المصري،
Shafi da ba'a sani ba