Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Nau'ikan
3
على مقربة من الحصن، فلم يكد يسمع ذلك حتى وثب إلى جواده، وأسرع به إلى قصر اسمه «قصر الملك الأكبر» داخل أسوار المدينة. وقد وقع ذلك في يوم سبت على رواية «ديوان بسكال»، ولا بد أن يكون ذلك هو اليوم الثالث من شهر أكتوبر. وفي اليوم التالي بعث «بنوسوس» في جيش ومعه المركبات الحربية الملكية للقاء من ينزل إلى البر من جنود «هرقل»، ولكن فرقة المركبات ثارت ووثبت بقائدها؛ لأن «كريسبوس» كان قد استمالهم إلى حزبه؛ فهرب القائد إلى المدينة والغيظ يأكل قلبه؛ فلما بلغها دفعه غيظه إلى جناية فظيعة؛ وذلك أنه جعل يقذف بالنيران على أحياء المدينة التي حول القصر المعروف ب «قيصريون»، فلم يقدر على إحراقه، ولكنه استطاع أن يقاوم الذين لحقوا به من ورائه من غوغاء المدينة، وأفسد عليهم سعيهم، فلم يخلصوا إليه، وهرب في زورق إلى مرسى في الميناء اسمه «ميناء جوليان»، غير أن أعداءه لحقوا به هناك، وضيقوا عليه الخناق، فحاول أن يقاومهم مقاومة عنيفة، غير أن ذلك لم يجده شيئا؛ إذ كان أعداؤه جموعا كثيرة. فلما لم يقدر على شيء، ورأى الخطر منه أقرب من وريده؛ قذف بنفسه في الماء فغاص به، وما إن طفا مرة حتى علاه سيف شق رأسه، وذهب بذهابه روح مارد ثائر، فغاب عن أرض طالما أفسد فيها، وأخرجت جثته من الماء، فجرها الناس إلى «سوق الثيران»، فأحرقوها يجللها العار وتشيعها اللعنات.
وهذه القصة قصة «بنوسوس» وموته قد جمعناها من ديوان «قدرينوس» وكتاب «حنا النقيوسي» و«ديوان بسكال»، ومن العجيب أنهم يتفقون جميعا فيما يوردونه، ولا يختلفون اختلافا حقيقيا إلا قليلا؛ فقد تختلف رواياتهم ولكن اختلافها ناشئ من نقص شيء أو زيادة آخر، وليس فيما بينها تناقض في ذكر الحوادث، وفوق هذا فإن مواضع الاتفاق بينهم في كثير من الأحيان واضحة تسترعي النظر، وهم إنما يتفقون في الجوهر لا في تفصيل الوصف، وهذا يدل على أنهم كتبوا ما كتبوه وكل منهم وحده مستقل عن الآخرين. وفي هذا ما يبعثنا على الاطمئنان إلى رواياتهم والاعتماد عليها، وليس ثمة ما يبعث على الظن أنهم رجعوا جميعا إلى مرجع واحد نقلوا عنه.
ومنذ علم الإمبراطور بما أصاب «بنوسوس» عرف أن ساعته قد دنت، ولم يكن في نيته أن يخلع عن نفسه التاج، في حين لم يكن يتوقع الرحمة إذا هو سلم لأعدائه؛ فكان أمله الوحيد في أن يقاتل إلى أن يحكم السيف حكمه. غير أن تسلل خير جنوده عنه لم يدع له أملا إلا قليلا، فلم يبق له إلا ولاء الحزب الأزرق، وإن شئت فقل لم يبق له إلا تلك العداوة الشديدة التي كان يحملها الحزب الأزرق لأعدائه أصحاب الحزب الأخضر، وما داخلهم من الحنق عندما رأوا نجاح الفئة المعادية لهم؛ وعلى ذلك جهز «فوكاس» أسطولا، وجعل رجاله من الحزب الأزرق، وجعله في ميناء «أيا صوفيا»، واستعد لقتال هرقل. وإنا ناقلون هنا قصة يرويها «حنا النقيوسي»، ولا نعرف أن مؤرخا آخر ذكرها؛ وذلك أن «فوكاس» و«خازن أمواله» «ليونتيوس» السوري عندما علما أن حياتهما أصبحت بعد قتل «بنوسوس» في أشد الخطر من غوغاء المدينة، أخذا كل ما في خزائن الدولة من الأموال وقذفا بها في البحر؛ فضاع بذلك في لحظة واحدة كل ما كان للإمبراطور «موريق» من الثروة، وما جمعه «فوكاس» من الذهب والجواهر بغصب أموال من قتل من ضحاياه، وما كنزه «بنوسوس» من أموال وتحف وأوان نفيسة حصلها بالظلم البالغ والغصب المتعدد. قال المطران: «وهكذا كان «فوكاس» سببا في وقوع الفاقة والعوز بالدولة الرومانية الشرقية.»
وكانت هذه الفعلة شفاء للغل، وريا للحقد، وهي جديرة بخلق «فوكاس»، والظاهر أنها وقعت في اللحظة التي لاح فيها نصر هرقل في الوقعة البحرية، ولا بد أن تلك الكنوز كانت محمولة في سفينة الإمبراطور حتى لا تؤخذ نهبا في أثناء القتال؛ فلما وقعت الهزيمة ألقي بها في اليم جميعا. وما كان من شك في نهاية الأمر، وعلى من تكون الدبرة مهما كان من شدة القتال، فهزمت سفن الإمبراطور، وقذف بها إلى الشاطئ أو استولى عليها العدو، وفر من استطاع من الجند فاستأمن في كنيسة «أيا صوفيا». وأما «فوكاس» فالظاهر أنه عاد بصحبة «ليونتيوس» إلى «قصر الملك الأكبر»، فلحق به «فوتيوس»، أو هو «فوتنيوس»، و«بروبس»، فضربا التاج عن رأسه فتردى عنه، ثم وضع هو في القيود والسلاسل، وجيء به يجر جرا على جانب المرفأ وقد تمزقت ثيابه كل ممزق، وعرض هناك على جنود الجيش والأسطول المنتصرين، ثم اقتادوه بين التهليل إلى حضرة الفاتح المنتصر في كنيسة «الرسول توماس» وصيحات اللعن الصاخبة تصدع أذنيه.
ومن الجائز أن «هرقل» اختار هذه الكنيسة ليصلي فيها شكرا لله على ما أولاه، ولم يختر كنيسة «أيا صوفيا» إذ كان بها عدد عظيم ممن فر من الحزب المقهور؛ ولهذا لم تكن تتسع لجمع كبير فوق ذلك أو لحفل ديني. ولسنا في حاجة إلى أن نكلف خيالنا شططا ليصور لنا كل ما جرى بين «فوكاس» و«هرقل»، وحسبنا أن نتصور كنيسة فخمة تزدحم برجال الدولة من قواد وشيوخ وجنود، وبقوم من رجال الدين مثلوا في ثيابهم السنية حول المحراب وقد وضعت عليه آنية الذهب، ومن حولهم يدوي المكان بأصداء النشيد نشيد الشكر لله، ثم يدخل «فوكاس» مكبلا بالقيود.
لبث الإمبراطور المخلوع برهة أمام تابعه المنتصر، وقد وصفهما «قدرينوس» وصفا مشهورا؛ فهرقل فتى في زهرة العمر؛ إذ كان في نحو الخامسة والثلاثين، وهو من بيت نبيل، وكان ربعة لا هو بالقصير ولا بالطويل، متين البناء، عريض الصدر، له قوام قوي مفتول، وكان شعره أشقر وكذلك لحيته، وكان وجهه ناصعا منيرا، له عينان لونهما صافي الزرقة، وتعلوه وسامة بديعة؛ فكان ظاهره ينم عن رجل صادق صريح عليه وقار وهيبة، قوي في جسمه وعقله، تبدو على وجهه سيماء الشجاعة والحزم والقدرة، ولعله كانت تبدو عليه كذلك صفة أخرى ذكرها «سعيد بن بطريق»، ألا وهي أنه لا يعبأ بما يرتكب في سبيل إتمام قصده. أما «فوكاس» فكان في مثل قامته، ولكن هذا كل ما كان بينهما من الشبه؛ فقد كانت صورته كريهة مما بها من العاهات، وكان لا لحية له، يعترض وجهه ندب جرح قبيح غائر فيه، وكان ذلك الندب يحمر أو يربد كلما ملكته سورة وثارت ثائرته، وكان حاجباه بارزين يقترنان في جبهة خفيضة من فوقها جمة من شعر أحمر، ومن دونها عينان تومضان وميضا وحشيا، وكان بذيء اللسان، مدمنا للخمر، مقبلا على المعاصي، قاسي القلب لا يتحرك قلبه بشفقة إذا ما عذب أو سفك الدماء. هذه صورة ذلك الجندي الذي سلط على الدولة الشرقية سوط عذاب ثماني حجج، ثم جاء عند ذلك ليحاسب على ما جنت يداه، فتلي عليه كتاب ذنوبه، وكشفت منه جريمة بعد أخرى، وقال هرقل: «أهذا سبيل حكمك؟» فكان رده: «وهل أنت من يحكم خيرا من هذا؟»
حكم عليه بالقتل، وأنفذ فيه ذلك، وارتكبت في قتله مثلة فظيعة، ولعمري إن تلك المثلة لم تكن من عيب في «هرقل» أو قسوة في خلقه، بل كانت من عيب في العصر كله وما كان معروفا فيه من العادات. على أنها لم تكن أفظع مما كان مباحا في قانون بلادنا
4
من تقطيع الأوصال وقطع الجسم أرباعا. قطعت أعضاء «فوكاس»؛ فقطعت يداه أولا، ثم بترت ذراعاه، وتلا ذلك تشويه آخر، ثم قطع رأسه بعد ذلك ووضع على قضيب، وعرض في أكبر طرق المدينة. أما سائر جسمه فقد سحب على الأرض إلى ميدان سباق الخيل، ثم إلى سوق الثيران، وأحرق في الموضع الذي كان فيه رماد «بنوسوس» ولما يكد يبرد، وأحرق عدا ذلك علم الحزب الأزرق (وليس الأخضر كما زعم جبون)، وجيء بتمثال «فوكاس» فحملوه في ميدان السباق في موكب استهزاء، يحمله جماعة يلبسون الثياب البيضاء الكهنوتية، وفي أيديهم الشموع موقدة حتى رموه في النار، وقد قال قائل: «قد أحرقوا «فوكاس» و«ليونتيوس» و«بنوسوس»، وذروا رمادهم في الهواء؛ إذ كان الناس كلهم يكرهونهم.»
Shafi da ba'a sani ba