171

Fath Carab Li Misr

فتح العرب لمصر

Nau'ikan

ومن المعلوم أن «الفاروس» أو المنارة كانت أثرا غير المسلتين، وهي بناء متين من الحجر شاهق العلو. وإنه لمن المضحك أن يتصور أحد أن بناءها العظيم يقوم على كرسي من الزجاج على هيئة السرطان، ومع ذلك فإنه مما يسر النفس أن يصل الإنسان إلى أصل هذه الخرافة التي تظهر في مبدأ الأمر سخيفة لا معنى لها؛ فإنها إنما نشأت من سوء فهم لما ذكره مؤرخو العرب الأوائل من الحقائق التاريخية وتحروا في ذكره الدقة العظيمة. فلا شك في أن المسلتين اللتين كانتا أمام كنيسة «القيصريون» عند دخول عمرو في الإسكندرية، كانتا على قاعدتين على هيئة السرطان كما وصفهما العرب الأوائل؛ فقد قام الدليل على هذا عند نقل إحدى المسلتين إلى نيويورك؛ إذ وجد أن هذا الحجر الهائل كان قائما على أربع صور من المعدن على هيئة السرطان، وكانت هذه تفصل بين المسلة وبين القاعدة. وكانت القاعدة من قطعة واحدة من صخر «الجرانيت»، وكان من تحتها ثلاث طبقات مدرجة من الحجر، ولم يكشف سند نقل المسلة إلا تمثال واحد من التماثيل الأربعة التي على هيئة السرطان؛ لأن القاعدة كانت قد مضى عليها زمن طويل وهي مدفونة تحت الأرض.

24

وكان ذلك التمثال نفسه مشوها، ولكن لم يكن ثمة شك في الغرض من تلك التماثيل؛ إذ قد وجدت كتابة باللغتين اليونانية واللاتينية على المعدن، وكانت لا تزال ظاهرة، وفيها مصداق لما رواه كتاب العرب.

25

وهذا مثل من الأمثلة الظاهرة التي كانت فيها أعمال الحفر والتنقيب مساعدة للتاريخ مصدقة له.

وقد يقول قائل: وماذا كان من أمر الجعلان أو العقارب الزجاجية التي تحت المسلة الأخرى، وما تحسب ذلك القول إلا إحدى الأقاصيص؟ وليس شيء أشد خطأ من مثل هذا القول؛ لأننا إذا سمعنا وصف أمرين متصلين اتصالا وثيقا، وصدق أحدهما صدقا لا شبهة فيه، وكان من آيات الدقة، فإن أعجب العجب أن نقول إن الأمر الآخر مكذوب لا صدق فيه؛ فما يكون قولنا هذا إلا تكذيبا لا مبرر له للتاريخ كله. وليس في وصف هذه المسلات ما يجعلنا في حيرة بين ما يقتضيه العلم وما يقتضيه التاريخ. لا جرم أننا لا نصدق أن تقوم قطعة عظيمة من الصخر في حجم تلك المسلة التي نسميها مسلة كليوبترا على جعالين من الزجاج مما يصنع في أيامنا هذه، وما كان في الزجاج قطع تبلغ من الحجم ما يكفي لمثل هذا القصد، ولكنا نعلم في المعادن معدنا عظيم الصلابة والرونق، وهو الحجر الأسود (الأبسيدي) الذي يشبه الزجاج، ويعرف بالزجاج الطبيعي. ولعل الجعالين التي كانت تحت المسلة الثانية - وهي القائمة اليوم في لندرة - كانت من ذلك الحجر الأسود. وإذا كان هذا غير ممكن فلعلها كانت من حجر آخر متين شديد الصقل. وإنا نؤثر أن نصدق ما قاله كتاب العرب بنصه كما جاء في قولهم، على أن نكذبهم فيه بعدما ظهر من صدقهم فيه صدقا جليا. فإنا لا نشك في أن المصريين كانوا فوق براعتهم في صناعة الزجاج يعرفون من عظيم أسرار صناعته ما تجهل، وليس بالمستبعد أن يكونوا قد استطاعوا صناعة صنف من الزجاج يبلغ من المتانة أن يحمل مثل تلك الكتلة الصخرية العظيمة. ومن المفيد هنا أن نقول إن المسلة التي حملت إلى لندن كانت قد وقعت على الأرض قبل الأخرى بزمن طويل.

إذن نقول إن أثرين عظيمين كانا قائمين أمام القيصريون على قاعدتين ذواتي طبقات، وكان أحدهما قائما على أربعة سرطانات من النحاس أو الشبه، وكان الثاني قائما على أربعة تماثيل من الزجاج المتين أو الحجر الأبسيدي على صورة العقارب. وإذا نحن أزلنا ما طرأ من الخلط على هذا الوصف بين المنارة والمسلتين، عرفنا أن التماثيل النحاسية التي يذكرها المقريزي لم تكن في أعلى المنارة حيث لا تكون ظاهرة لرأي العين، ولكنها كانت في أعلى المسلات، وكان التمثال «الذي يشير إلى الشمس» بغير شك تمثالا ذا جناحين يمثل «هرميس» أو «نيكي

Nike » (إلهة النصر عند اليونان)، وأغلب الظن أنه كان قائما على قدم واحدة فوق قمة المسلة،

26

يمد يده اليمنى على عادة اليونان في تصوير تماثيلهم. وكان التمثال الآخر الذي «يشير إلى البحر» صورة أخرى لا يقصد بها إلا التجميل والزينة وإيجاد التماثل في المنظر. ولا بد أن هذه الأعمدة العظيمة القديمة كانت باهرة الرونق والجمال في صنعها ورسمها الذي أبدعته يد الصناع في عصر أغسطس، وأنها كانت ذات أثر عظيم في النفس إذا ما وقعت العين على قمتها الشاهقة؛ إذ تمر بها السفن في دخولها إلى المرفأ أو خروجها منه.

Shafi da ba'a sani ba