سارت الفتاة في الحديقة ومعظم أشجارها عار من الورق، وأكثر رياحينها خالية من الأزهار كأنها تشارك فتاتنا الذبول والانكسار، إلا الأرض فقد كانت كأنها بساط من العشب الأخضر، مرصعة ببعض الأزهار التي تتفتح في الشتاء، فمشت الفتاة وهي لا تبالي بما قد يعترض طريقها من الأغصان المدلاة، فربما لطم كتفها غصن ولطم صدرها آخر ورأسها ثالث. وبين يديها امرأة عجوز تحوم حولها وترعى حركاتها وتزيل العقبات من سبيلها. ولم تكن العجوز أقل منها قلقا، ولكن الزمان حنكها ومرور الحدثان علمها أن الدنيا لا تدوم على حال.
وكانت الفتاة تمشي وتلتفت نحو القصر، ثم ترسل نظرها من خلال الأشجار إلى ما يطل عليه ذلك البستان من الحدائق البعيدة، وفوقها جبال شامخة يعلو بعض قممها ثلج تنعكس عنه الأشعة كأنها جبال من الفضة. والفتاة تارة تنزل في واد وطورا تصعد على تل، والعجوز تقطف لها زهرة من هنا وثمرة من هناك، فتتناول الفتاة الزهور والثمار ولا تتكلم، كأنما قد حكم عليها بالصمت وأصبح الكلام عليها ذنبا.
وبعد أن سارت برهة انتهت إلى أكمة منبسطة تطل على النهر يكسوها عشب قصير كأنه بساط من الديباج، وقد تطاير عنه الندى بوقوع الأشعة عليه، فراق لفتاتنا الجلوس عليه والتعرض لأشعة الشمس التماسا للدفء وللتمتع بمنظر السماء الأزرق الصافي، فالتفتت إلى العجوز وقالت بصوت مختنق لطول السكوت: «ما قولك يا خالة؟ ألا نجلس على هذه الأكمة نتمتع بهذا الطقس الجميل؟»
فهرعت العجوز وهي تصلح نقابا كانت قد لفت به رأسها وأذنيها تجنبا للبرد وقالت: «اجلسي حيثما تشائين يا حبيبتي!» ثم أسرعت إلى كرسي من خشب كان في إحدى طرق الحديقة وجاءتها به، فأبت الجلوس عليه وقالت: «أفضل هذا العشب؛ فإن الجلوس عليه حسن في هذا اليوم.» فجلست، وجلست العجوز بين يديها وهي لا تزال ترقب حركاتها، وقلبها يحوم حولها، وقد سرها ارتياحها إلى مناظر الطبيعة، فجعلت ترغبها في إمتاع نظرها بما تشرفان عليه من مجرى النهر وما وراءه من التلال التي تكسوها غابات الصنوبر والزيتون والسنديان، ويتخلل الغابات بيوت متفرقة هنا وهناك. وكأن الناظر إلى تلك البقعة ينظر إلى لوحة فنية مكبرة، فقالت العجوز: «تأملي يا فلورندا في هذه المناظر الجميلة فينشرح صدرك، ودعي عنك الأوهام.»
وكانت تلك التعزية سببا في إثارة شجون فلورندا، فقالت: «لقد ذكرتني يا خالة بأمر أحاول أن أنساه، كيف ينشرح صدري وأنا أعاني كما تعلمين من الاضطراب والقلق، وقد زادني انشغالا انتقالي إلى هذا القصر؟!»
فقالت العجوز: «وماذا يخيفك من ذلك الانتقال، وقد أصبحت أقرب إلى قصر الملك وأعز جانبا؟»
فقالت فلورندا وهي تتطلع إلى أبعد ما يقع عليه بصرها من مجرى النهر وكأنها ترى قاربا بعيدا: «إن ذلك الانتقال هو الذي أخافني، ويا ليته نقلني إلى أطراف المدينة! بل يا ليته أرجعني إلى والدي!» قالت ذلك وشرقت بدموعها، فانصرفت عن النظر إلى ذلك القارب بما جال في خاطرها من أمر والدها وبعدها عنه ووقوعها في ذلك الخطر.
ألفونس
وكانت العجوز خالة أم فلورندا، وقد احتضنتها منذ طفولتها وربتها في بيت والدها، حتى آن مجيئها إلى بلاط الملك - على جاري عادتهم - فكلفها أبوها أن تكون معها، فقضت في عشرتها بضعة عشر عاما، ولم تكن تزداد إلا حبا لها وعطفا عليها لما فطرت عليه فلورندا من الجمال واللطف. ولما رأتها تبكي انفطر قلبها، وقالت: «إن الرجوع إلى والدك ميسور، ولكنني لا أرى بأسا في بقائك هنا وبخاصة لأجل ألفونس.»
فلما ذكرت العجوز اسم ألفونس ظهرت الدهشة على وجه الفتاة، وكأنها كانت في غفلة ثم أفاقت - على حين فجأة - فدق قلبها وصعد الدم إلى وجهها فزال ذبول لونها، ثم تنهدت والتفتت إلى العجوز، وقالت: «دعيني من ألفونس، حتى ألفونس نفسه، كان من أسباب شقائي، وقد كنت كما تعلمين أحسبه سبب سعادتي. آه! دعيني أبكي.»
Shafi da ba'a sani ba