134

Fathin Andalus

فتح الأندلس

Nau'ikan

مغالبة العواطف

وكان ألفونس منذ أتاه كتاب أوباس وهو يغالب عواطفه ويقدر عواقب تلك الحرب، فلا يرى في ذلك الثبات خيرا، ناهيك بما فيه من الخطر على فلورندا وأبيها، وكان كلما تصور فلورندا مصابة بسوء اقشعر بدنه. وكان منذ قرأ كتابها إلى والدها في تلك الغرفة المظلمة وهو يبحث عنها، فلم يقف على خبرها، ولم يكن يستطيع الاستمرار في البحث خوفا من رودريك، ثم سمع بقدوم العرب وإيغالهم في بوتيكة، ويوليان رائدهم، وكان في عزمه أن ينضم إليهم إذا لم يكن انتقاما من رودريك فإكراما لفلورندا. ثم جاءه كتاب أوباس فأثر على تفكيره تأثيرا عظيما كأنه استهواه بالتنويم المغناطيسي. على أن عند بعض الناس قوة يتسلطون بها على آراء من يخاطبونهم، لا يعبر عنها بغير الاستهواء. وكان أوباس من أكثر الناس تسلطا على الآراء ولا سيما على ابن أخيه ألفونس مع ما علمت من ضعفه.

فأصبح ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب كأنه في بحر لا قرار له، يشعر من جهة بأنه يجب أن ينزل عند مشورة عمه، ويرى ذلك من الجهة الأخرى مخالفا لعواطفه ومناقضا لمصلحته، حتى إذا أتاه الأمر من رودريك أن يوافيه إلى شريش، زاد تمكنه من رأي عمه واشتغل بالحرب والاستعداد لها، وصورة فلورندا مع ذلك لم تبرح مخيلته، ولكن عواطفه كانت مقيدة بسلطان عمه، وأصبح بسبب ذلك منقبض النفس ضيق الصدر، وقد نسي الابتسام وأغفل الاجتهاد وسلم أمره إلى الأقدار.

ولما جاء رودريك بالأمس وعسكر هناك، سلم إلى ألفونس قيادة ميسرة الجند، وأمره أن يكون على استعداد للهجوم في صباح ذلك اليوم، فبكر ألفونس في الفجر وأمر قواده، فرتب كل منهم فرقته في موضعها، ودخل ألفونس خيمته ليلبس درعه، وكان يعقوب يرافقه وعيناه شائعتان يترقب مجيء سليمان أو خبرا من عنده حتى خشي أن تضيع الفرصة، فإذا هو برجل من بين الناس لحظ يعقوب من عينيه أنه يحمل خبرا سريا، وكان ذلك الرجل يعرف يعقوب، فطلب إليه مقابلة ألفونس فقال: «وهل معك كتاب إليه؟ وممن؟»

قال: «معي رسالة من الكونت يوليان.» ومد يده ودفع إليه لفافة من جلد، فتناولها يعقوب، ودخل وحده، ولم يكن في الخيمة غير ألفونس، فلم ينتبه له، فأقبل يعقوب حتى دنا منه وتنحنح نحنحة تعود ألفونس أن يكون من ورائها خبر هام. وكان قد خلع قباءه ونزع قبعته وأخذ في لبس الدرع، فبدأ بالجزء الذي يكسو الصدر والظهر وهم بلبسه وقد علقت حواشيه بأطراف ضفائر شعره المسترسل على كتفيه فأخذ في تخليصها. فلما سمع نحنحة يعقوب التفت إليه، فإذا هو يحمل بيمناه لفافة مختومة، وقد جعل يسراه على صدره، فتناول ألفونس اللفافة وفضها، فأخرج منها ورقا مكتوبا، وما إن قرأ فيه اسم يوليان حتى خفق قلبه واستيقظت عواطفه وتصاعد الدم إلى وجهه، وبانت البغتة فيه وبخاصة بعد أن أتم تلاوته. وكان يعقوب واقفا أمامه وقد أسند يديه متصالبتين على صدره، فدفع ألفونس ذلك الكتاب إليه كأنه يستشيره في أمره، فتناول يعقوب الكتاب وقرأه فإذا فيه:

من يوليان كونت سبتة إلى الأمير ألفونس

لا حاجة بي أيها العزيز إلى إطالة الشرح في المصائب التي توالت على هذه الجزيرة منذ تولاها هذا الباغي، فضلا عما تعلمه من تعديه على الملك وإخراجه من أيدي أهله بقتل المرحوم والدكم، فكرسي الملك لبيت غيطشة وأنت أرشدهم جميعا.

ولم يكتف بتعديه على الحقوق ولكنه تجاوزها إلى الأعراض، فمن كان هذا شأنه فكيف يطاع أمره؟! والعرب يا ألفونس دولة جديدة ملكت الخافقين بالعدل والرفق، وهي ستنتصر على رودريك لا محالة؛ لأن أهل مملكته كلهم ضده، حتى أقرب أقربائه، والذي ينصره إنما ينصر الظلم والغدر ... وأنت تعلم أني ضنين بك شفيق عليك؛ لما بيننا من رابطة النسب الصحيح، فإذا أطعتني وانضممت إلى جند العرب فإني ضامن لك كل ضياع المرحوم والدك في الأندلس، وهي ثلاثة آلاف ضيعة قد سلبكم رودريك إياها، وعندئذ تعود أنت وسائر آل غيطشة إلى ما كنتم عليه من العز قبل استبداد هذا الطاغية، وإنما كتبت هذا إليك رفقا بك وشفقة عليك، والسلام.

وكان يعقوب يتلو الكتاب وألفونس مطرق وشعره لا يزال مسترسلا على كتفيه وقد علق بعضه بهداب الدرع، فلما فرغ يعقوب من قراءته نظر إلى ألفونس وقال: «وما الرأي يا مولاي؟»

قال: «الرأي؟ أنت أدرى مني بما كتب به إلينا عمي الميتروبوليت أوباس، فهل أعصي عمي وأطيع يوليان؟»

Shafi da ba'a sani ba