224

Fatawa

فتاوى السبكي

Mai Buga Littafi

دار المعارف

غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَانْتَفَتْ الْحَاجَةُ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِلْعِبَادِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَوَضَعَ اللَّفْظَ مَوْضِعَ اللَّفْظِ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ رُتْبَةَ الْكَمَالِ فِي الصَّوْمِ قَدْ تَكُونُ بِاقْتِرَانِ طَاعَاتٍ بِهِ مِنْ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَاعْتِكَافٍ وَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا وَقَدْ تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتٍ. فَكُلُّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ كَمَالًا وَمَطْلُوبٌ فِيهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ أَجْوَدُ الثَّانِي بِالرَّفْعِ، بَلْ أَقُولُ: إنَّ الْكِمَالَاتِ فِي الصَّوْمِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ قَدْ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَلَيْسَ لِحَدِّ الْكَمَالِ نِهَايَةٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا فَفَوَاتُهُ نَقْصٌ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا ... كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
لَا سِيَّمَا فِي مُخَالَفَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِالصَّوْمِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ فَهِيَ نَقْصٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْأَسْحَارِ بَعْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَدَمِ الْهُجُوعِ لَيْلًا.
فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصَّوْمِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنْزَلُهَا مَا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ إلَّا الْبُطْلَانُ، وَاَلَّذِي يُثْلِمُ التَّقَوِّي مِنْ ذَلِكَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَدَعْوَى كَوْنِ الصَّغِيرَةِ لَا تُثْلِمُ التَّقْوَى مَمْنُوعَةً فَإِنَّ التَّقْوَى مَرَاتِبُ: إحْدَاهَا تَقْوَى الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: ٢٧] الْمَعْنَى هُنَا مَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ يُتَقَبَّلُ مِنْهُ، الثَّانِيَةُ تَقْوَى الْكَبَائِرِ، الثَّالِثَةُ تَقْوَى الصَّغَائِرِ، وَالرَّابِعَةُ تَقْوَى الشُّبُهَاتِ.
وَقَدْ قَالَ ﷺ «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَقْوَى فَتَرْكُ الصَّغَائِرِ أَوْلَى فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا فَقَدْ انْخَرَمَتْ تَقْوَاهُ وَلَا بُدَّ حِينَ ارْتَكَبَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مُحَرَّمَةً وَمَعْصِيَةً وَمَذْمُومًا فَاعِلُهَا وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُكَفِّرُهَا غَيْرُهَا فَلَا رِيبَةَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ تُنَافِي التَّقْوَى إلَّا أَنَّ التَّقْوَى عَلَى مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَالتَّقْوَى الْكَامِلَةُ تُنَافِيهَا الصَّغِيرَةُ قَطْعًا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ أَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ): فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ وَشُرُوطُهَا وَأَحْكَامُهَا فِي غَيْرِ مَا نَقْصِدُهُ مَعْرُوفَةٌ وَأَمَّا مَا نَقْصِدُهُ هُنَا فَقَدْ نَظَرْت مَا حَضَرَنِي مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَلَمْ أَجِدْ التَّوْبَةَ إلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١] بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ إلَى هُنَا أَحْكَامَ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي وَالْقَذْفَ وَقَضِيَّةَ الْإِفْكِ الَّتِي لَا شَيْءَ أَقْبَحُ مِنْهَا، وَكَمْ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ

1 / 226