ووقف حمدون بين يدي المعز وجعل يقدم له أمراء سجلماسة واحدا واحدا ويسميهم بأسمائهم وفي جملتهم أبو حامد واختصه عند التعريف بعبارات الإعجاب به وأعرب عن إخلاصه للخليفة. فأمر المعز أن يكون من جملة الجلوس في ذلك السرادق. ولم يقصر أبو حامد في تأكيد ولائه وولاء سائر أمراء البربر لأبناء فاطمة الزهراء. وبالغ في الإطراء وهو - كما علمت - فصيح اللهجة قوي الحجة رغم ما في سحنته من الغرابة. فأعجب المعز به وتوجه نحوه وأبدى ارتياحه إلى مجالسته.
فلما استقر الجلوس بالقوم تصدى أبو حامد للترحيب بالخليفة بالنيابة عن صديقه حمدون، فقال: «إن صديقي أمير سجلماسة يحق له أن يفاخر سائر الأمراء بما أوتيه من تنازلكم لوطء بساطه. بل يحق له أن يفاخر الناس كافة وقد وطئ بساطه ابن بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولعل صديقي حمدون؛ لفرط امتنانه لا يقوى على تأدية حق الشكر.»
فأعجب المعز بحديث أبي حامد وقطع كلامه على سبيل التواضع وقال: «إننا نقدر الرجال أقدارهم ونحن نعلم فضل صاحب سجلماسة، ومن أخلص الصحبة لنا جعلناه واحدا منا وإن مصاهرته لقائدنا الباسل جعلت له منزلة خاصة من نفسنا.»
فتقدم حمدون عند ذلك وقال نحو ما قاله أبو حامد من عبارات الشكر وأكد للخليفة أنه مخلص في خدمته واستأنف الحديث قائلا: «ألا يأمر أمير المؤمنين بشيء يسر بمشاهدته من الألعاب.»
فأحب المعز أن يزيده استئناسا به، فأجابه باللغة البربرية؛ لأنه كان يحسنها وقال: «كثيرا ما سمعت بمهارة فرسان سجلماسة بركوب الخيل فهل يتيسر لنا أن نراهم يتسابقون؟» وتبسم.
ففرح حمدون بذلك الانعطاف وأسرع وهو يشير بيديه فوق رأسه إشارة الطاعة. والتفت نحو الوقوف بباب السرادق من الرجال وأومأ بإصبعه إلى واحد منهم فهرع، ولم يمض قليل حتى غصت تلك الساحة بالخيول عليها الفرسان بالألبسة الفاخرة على زي أهل سجلماسة وأكثرهم باللثام على رءوسهم يغطي معظم الوجه. وعلى أكتافهم البرانس الواسعة نحو ما يلبسه أهل تلك البلاد إلى اليوم. وعلى خيولهم السروج المختلفة وفيها القرابيز الفضة المذهبة أو المنزلة بالعاج وبينها خيول عارية لا سرج عليها وإنما يزينها جمالها الطبيعي. على أن العارفين بطبائع الخيل لا يلتفتون إلى ما على الأفراس من الكساء وإنما ينظرون إلى صدورها وأعناقها وأكتافها، ويتفرسون في عيونها. وكان المعز من أكثر الناس معرفة بالخيل فأخذ يتأمل تلك الأفراس ويجيل نظره فيها كما يفعل العارف الخبير.
وقف الفرسان صفا واحدا عند السرادق وخيولهم لا تستقر في مواقفها ريثما أدوا واجب الاحترام. ثم أشار حمدون إليهم فأخذوا في اللعب على ظهورها ألعابا مدهشة تشغل الخاطر لغرابتها، وفيها ما يبعث على الإعجاب الكثير؛ لأن بعض الفرسان كان يسوق فرسه حتى لا تكاد حوافره تطأ الأرض ويعمد وهو في تلك السرعة فيدور حوله حتى يلتصق ببطنه ثم يعود إلى ظهره ورأى غيره يركب فرسا ويسوق آخر إلى جانبه وينتقل من ظهر الواحد إلى ظهر الآخر والفرسان في أشد السرعة وغير ذلك. فلم يتمالك المعز عن إطراء تلك المهارة ووجه خطابه إلى أبي حامد وقال: «بالحقيقة إن أهل سجلماسة من أمهر قبائل البربر في الفروسية حتى نساءهم فقد بلغني أن فيهن ماهرات يسابقن الرجال.»
فتصدى القائد جوهر للجواب وقال: «نعم يا مولاي إني رأيت ذلك منهن رأي العين في بلادهن.» والتفت إلى ابنه الحسين وابتسم ابتسامة فهم الجميع مراده منها - وهو يعني لمياء على الخصوص - فقال أبو حامد: «أظنك تعني لمياء وهز رأسه هز الإعجاب» فالتفت المعز وقال: «عرفنا لمياء عاقلة حكيمة وسمعنا ببسالتها في ساحة الوغى ... فهل تحسن ركوب الخيل أيضا؟»
Shafi da ba'a sani ba