الفصل العاشر
التصريح
فأثر ذلك التوبيخ في نفس لمياء تأثيرا شديدا، ورأت قولها معقولا ولكن قلبها لم يطاوعها على العمل به ولا طاوعها عقلها على الرفض. وهي مع ذلك لا تعلم أين هو سالم. ميت أو حي ولم تر فرجا من تلك الحيرة إلا بالبكاء فجاشت خواطرها وهمت بالبكاء ثم أمسكت عواطفها تجلدا وسكتت وهي تبلع ريقها وتغالب نفسها وقد أطرقت لا تبدي حراكا.
وأظهرت أنها تتفرس في جلد أسد مفروش هناك.
فلم تبال أم الأمراء بسكوتها فأتمت كلامها قائلة: «ومع ذلك فقد سمعت قائدنا جوهرا يطري شجاعتك وثباتك في حومة الوغى ... فما لي أرى فيك هذا الضعف الآن؟»
فلم تعد لمياء تستطيع التمالك فتنهدت تنهدا شديدا ورفعت عينيها إلى أم الأمراء والدمع يتلألأ فيهما وجلست جثوا على سبيل التأدب وقالت - وهي تغص بالكلام: «لقد غمرتني بلطفك يا سيدتي ... إني لا أستحق هذا الالتفات ... نعم لا أستحق النعمة التي تعرضينها علي ولكنني ... آه ... لا أملك قياد قلبي ... سامحيني على التصريح لك. لقد رأيت من عطفك ولطفك ما يخولني الدالة عليك وإن خالفت العادة والطبع أني يا مولاتي لا أملك من قياد نفسي شيئا. نعم إني شجاعة في الحرب لا أهاب لقاء الأبطال ولكنني مع سالم ضعيفة ... لا أذكره إلا وأشعر بانحلال عزائمي وخفقان قلبي ... ألعل ذلك ما يعبرون عنه بالحب؟ وقد سألتني إذا كان يحبني، فكيف يمكن أن لا يكون كذلك وأنا لا أرى للحياة قيمة بدونه؟»
ولما وصلت إلى هنا انتبهت لنفسها وأحست أنها تورطت في التصريح بما لا يجوز لمثلها وإنما غلبت على عواطفها فلم تملك إمساك هواها. وخجلت من أم الأمراء فحولت وجهها نحو الحائط وأخذت في البكاء وقد بكت هذه المرة أسفا على ضعفها وتطلعا إلى رؤية حبيبها سالم وهي لا تعلم أين هو. أما أم الأمراء فاستغربت تعلق لمياء بخطيبها ولم تكن تتوقع أن ترى منها ثباتا وشغفا إلى هذا الحد. فلما آنست منها ذلك قالت: «يسرني يا بنية أنك تحبين خطيبك إلى هذا الحد؛ فإن المحبة من أكبر النعم. وأطلب إلى الله أن يجمعك به وإذا رأيت أني قادرة على مساعدتك في ذلك قولي ... أما الحسين فإني استمهله؛ لنرى ما يكون - إذ لا يعلم ما في الغيب إلا الله ...»
فهمت لمياء بتقبيل يدها شكرا على صنيعها فأبت عليها ذلك وقبلتها برأسها ونهضت وهي تقول: «قد تعودت أن أذهب في مثل هذه الساعة إلى مقعد لي يشرف على قاعة أمير المؤمنين التي يقابل الناس فيها أطل عليها من وراء حجاب فأشاهد مجلس الأمراء وأسمع ما يدور بينهم إني كثيرة الاهتمام بشئون الدولة ...»
فأعجبت لمياء بعلو همتها وقالت: «سمعت بذلك عنك.» وقد سرها أن تبدأ هي بالعزم على ذلك ومالت إلى مرافقتها فقالت: «وهل ترين بأسا من أن أكون معك؟»
قالت: «كلا ... وبالعكس فإني أستأنس بك.»
Shafi da ba'a sani ba