فسكتت وتحولت إلى مرتفع بجانب المقطم يطل على ما تحته إلى النيل، فأعجبها ما رأته من العمارة التي لا تعهدها في القيروان ولا في غيرها من البلدان التي مرت بها. ولفت انتباهها - على الخصوص - لمعان سطح النيل وراء الفسطاط. ووراء النيل بساتين الروضة والجيزة ووراءها الأهرام تناطح السحاب، وقد اكتنف النيل على ضفتيه بساتين النخيل الباسقة تختلط رءوسها برءوس السواري البارزة عن السفن السابحة في مياه الفسطاط، تحمل إليها الغلات والسلع وضروب الأنسجة من كل صقع وبلد، فزادت رغبتها في أن تصير هذه البلاد إلى المعز لدين الله، وتصورت الخليفة قد دخلها فاتحا ورفع أعلامه فوقها فاختلج قلبها فرحا.
الفصل الخمسون
الشيعة بمصر
ثم ما لبثت أن عادت إلى التفكير في المهمة التي قطعت تلك الصحراء من أجلها، فكان أول همها أن تبحث عن منزل يعقوب بن كلس، ولكنها أمرت صاحب الركب أن يسوق الأفراس إلى فندق أو خان فينزلون فيه.
فأخذهم إلى فندق قديم يعرف بفندق ابن حرمة بأول سوق العدسيين.
وكانوا وهم يمرون في الأسواق لا يلفتون الأنظار؛ لكثرة من يدخل الفسطاط يومئذ من القوافل القادمة من الشام والعراق والمغرب والسودان وغيرها تحمل البضائع والغلال والريش والصمغ والجواري والغلمان على البغال أو الأفراس أو الجمال غير ما ينقل بحرا عن طريق النيل.
وما زالوا حتى أتوا الفندق فأمرت لمياء صاحب الركب أن يهتم بالأفراس وهو لا يشك في أنها غلام، وبعد الاستراحة قليلا توجه همها إلى السؤال عن بيت يعقوب بن كلس فطلبت صاحب الخان إلى غرفتها، فجاء، فرحبت به وكانت قد بالغت في إكرامه ودفعت إليه أضعاف ما طلبه من الأثمان أو الأجور فأصبح طوع إرادتها، فلما دعته إليها وقف بين يديها وأدهشه جمال ذلك الغلام الصقلبي وما في عينيه من الذكاء.
وكان الخاناتي (صاحب الفندق) شيخا لطيف المحضر قد عركه الدهر وشهد تقلب الدول على مصر من أواخر جولة آل طولون. وكان في جملة من شاهدوا الفتك بالطولونيين وخرائب القطائع. وعاصر الإخشيد لما جاء حاكما ونزل الفسطاط. وكثيرا ما مر به النزلاء من سائر الطوائف والعناصر من الأتراك والأرمن والشوام والمغاربة والفرس والشراكسة والسودانيين وغيرهم.
وأصحاب الفنادق والحانات والقهوات ونحوها من الأماكن العمومية أقرب إلى اللطف ودماثة الخلق من سائر طبقات العامة؛ لأنهم يتعودون الصبر على الضيم وسعة الصدر باضطرارهم إلى مسايرة الناس على اختلاف أهوائهم وطبائعهم، فيأتيهم السكران والمعربد والثقيل والبارد والمتكبر والمحتال، وهم مضطرون - بحكم الارتزاق - أن يرضوهم كما يرضون سواهم، فإذا لم يكن فيهم استعداد للقيام بذلك هجروا تلك المهنة وعدلوا عنها إلى سواها .
وإذا ظلوا فيها فلا تزال الحوادث تعركهم والتجارب تحنكهم حتى تصير أخلاقهم كالعجين لينا ودماثة.
Shafi da ba'a sani ba