فأثر ذلك المنظر في لمياء وأحست بشيء يجتذبها نحو تلك المرأة فلم تتمالك عن الترامي على كتفها وقد سبقتها دموع الامتنان، فضمتها أم الأمراء إلى صدرها وقبلتها وقالت لها: «ولكن عسى أن تعودي سالمة ظافرة ويعود الحسين أيضا فائزا فتزفان في هذا القصر وننسى ما قاسيته من الشقاء ...»
فتجلدت لمياء واعتدلت وقد بانت الحماسة في عينيها، وقالت: «إنما يكون ذلك في الفسطاط - بإذن الله.»
فأعجبت أم الأمراء بغيرتها وضحكت وضمتها ثانية وودعتها على أن تدبر أمر الكتاب.
وانصرفت لمياء إلى غرفتها وأخذت تفكر في ما هي مقدمة عليه من الأمر العظيم - سفر وخطر وبعد وشوق - لكنها تجلدت واستحثت عاطفة الشجاعة وقالت في نفسها: «لا بد لي من الصبر حتى أنتقم لوالدي وأثأر لنفسي من ذلك الخائن الذي خدعني وأراد أن يجعلني ضحية مطامعه.»
وسكتت وأطرقت وهي واقفة أمام المرآة تنزع ثيابها. وتصورت ما كان لسالم من المنزلة عندها فخفق قلبها وسبق إلى ذهنها حسن الظن به، فقالت: «قد يكون ابن كلس منافقا أو مخطئا ... هل يمكن أن يكون سالم خائنا إلى هذا الحد ويخدعني عدة سنين؟ لا ... لا ... إذن كيف أفسر عمله؟ ولو كان صادقا في حبه لم يوافق على الفتك بأبي ... ولكن سأتحقق ذلك بمصر قريبا.»
وكانت قد فرغت من نزع ثيابها فاستلقت على الفراش للراحة والتأمل وأجلت الحكم في كل شيء إلى ما بعد وصولها إلى مصر.
وبعد بضعة أيام أتتها أم الأمراء بكتاب المعز لدين الله إلى يعقوب بن كلس، فتناولته وودعتها سرا وكان وداعا مؤثرا، وكانت لمياء قد أعدت كل ما يلزم للسفر من الخدم والأدلاء؛ لأن الطريق من القيروان إلى مصر بعيدة الشقة لا تقطعه إلا القوافل وقد أعدت شبه بريد مؤلف من أربعة أفراس مع ما يلزم من الخدم والحرس وجعلت أن ذلك البريد يحمل غلام أمير المؤمنين إلى مصر، ولما أتاها الكتاب تنكرت بثوب غلام صقلبي وركبت ولا يشك من رآها في أنها غلام الخليفة يحمل رسالة في مهمة. وسار الركب قاصدا مصر.
الفصل التاسع والأربعون
الفسطاط
كانت الفسطاط عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة منذ بناها عمرو بن العاص، فلما تولى أحمد بن طولون جعل مقره في القطائع - كما تقدم في رواية أحمد بن طولون - ثم ذهبت الدولة الطولونية وأفضت الإمارة إلى محمد الإخشيد، فجعل مقره الفسطاط، فعادت إلى رونقها وزادت عمارتها وتزاحمت الأقدام فيها حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال.
Shafi da ba'a sani ba