فتأثر حماد لمنظر ذلك الراهب الهرم إذ تمثلت له فيه مظاهر الشيخوخة واضحة وضوحا تاما ولكنه لاحظ أمرا واحدا استلفت أنظاره وذلك أنه رأى لباس هذا الراهب كلباس رهبان النساطرة في العراق وكان قد شاهد كثيرين منهم هناك فتقدم نحوه وقبل يديه فنظر إليه الراهب وتأمله كأنه عرفه وأمر بالجلوس فجلس وهو أكثر رغبة منه في مجالسته لأنه ود كثيرا أن يعرف قصة ذلك البناء وكان حماد قد تعلم كل علوم تلك الأيام في مدرسة الرهبان الشهيرة بالعراق فتثقف عقله وصار محبا للاطلاع فلما رأى في ذلك الراهب ارتياحا إلى مجالسته سر سرورا عظيما وتربع حالا فقال له الراهب : «ألعلك من عرب العراق يا ولدي.»
فتعجب حماد لسؤاله فقال: «نعم يا سيدي وكيف عرفت ذلك.» قال: «عرفته من ملامح وجهك لأني عاشرت عرب العراق زمنا. وهل أنت مقيم هنا أم جئت مسافرا.»
قال: «جئت لأفي نذرا علي لهذا الدير.»
قال: «وما هو نذرك.»
قال: «نذرني والدي أن لا يقص شعري أولا إلا في هذا الدير وأنه لا يقصه إلا بعد مضي السنة الحادية والعشرين من عمري وسيكون ذلك في أحد الشعانين القادم فجئت اليوم لنيل البركة والتمتع بمنظر هذه الصومعة إذ كثيرا ما حدثنا أهل بصرى عن الراهب بحيراء. ألعلك أنت هو يا سيدي.»
قال: «لا يا ولدي إن الذي تطلبه قد قتله بعض الأشرار غيلة.»
قال: «كيف قتلوه ولماذا فإني كثير الميل إلى استطلاع خبره.» وقد أراد حماد الانشغال بالحديث لتمضية الوقت ريثما تأتى هند لأن الانتظار صعب.
الفصل الثامن
الراهب بحيراء
فتنهد الشيخ تنهدا عميقا وحملق عينيه وقد نسي شيخوخته وكأن شبابه عاد إليه وأخذ يمشط لحيته بأصابعه وقال: «أما بحيراء فهو من نعم الله على بني الإنسان ولا أظن الأرض تجود بعده بمثله أما حكايته فقد وقعت على خبير فاعلم أن اسمه الحقيقي ليس بحيراء بل يوحنا وأما بحيراء فهو لفظ كلدانى معناه العالم المدقق أو المحقق لقبوه به لطول باعه في سائر العلوم.»
Shafi da ba'a sani ba