قبض أبو بكر بعد مغيب الشمس من مساء الإثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة للسنة الثالثة عشرة من الهجرة (22 أغسطس سنة 632م)، فلما جن الليل غسل وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله إلى المسجد، وصلي عليه، ونقل جثمانه إلى قبر الرسول، ودفن في حفرة إلى جنبه
صلى الله عليه وسلم ، وجعل رأسه إلى كتف رسول الله وألصق اللحد باللحد، وقد تولى دفنه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر.
أتم عمر واجبه الأخير للخليفة الأول، وخرج من حفرة القبر بدار عائشة فسلم على أصحابه، ثم انطلق عائدا أدراجه يؤم داره بعد منتصف الليل،
1
ودخل مضجعه وجعل يفكر فيما يتنفس عنه الغد، فسيبايعه المسلمون من بكرة النهار ليتولى أمورهم، فيواجه منهم من رضي استخلافه كارها، ثم يواجه الموقف الحربي الجليل الدقيق في العراق وفي الشام؛ فماذا عسى أن يفعل ليتغلب على هذين الأمرين وهما بأعظم مكان من جلال الخطر في حياة الدولة الناشئة.
كان موقف المسلمين بالعراق والشام يومئذ بالغا غاية الدقة، فقد جمدت قوات المسلمين بالشام أمام قوات الروم فأنجدها أبو بكر بخالد بن الوليد في عدد من جيش العراق، مع ذلك أقامت القوات وخالد على رأسها ولا يبلغ المسلمين بالمدينة من نبئها ما يبعث إلى نفوسهم الأمل في نصرها أو يطمئنهم على مصيرها، وقد ضعف جيش العراق بغياب خالد فيمن فصل بهم من المسلمين إلى الشام، فلم يستطع المثنى بن حارثة الشيباني، على براعته ومقدرته، أن يحتفظ بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق، فارتد إلى الحيرة وتحصن بها، حقا إنه انتصر على جيش من الفرس وجهه شهريران بن أردشير بقيادة هرمز جاذويه، فالتقى هو والمسلمون على أطلال بابل فردوه مدحورا، لكن المثنى رجع بعد نصره يتحصن بمواقفه الأولى خيفة أن يباغت، موقنا أنه لن يستطيع التقدم وإن استطاع المقاومة، بل لقد تصبح المقاومة أمرا عسيرا إذا اطمأن بلاط فارس وزال اضطرابه، لهذا كتب إلى أبي بكر يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، وكان أبو بكر قد حرم الاستعانة بهم في الحرب، فلما أبطأ عليهم رد الخليفة استخلف بشير بن الخصاصية على من بالعراق من المسلمين، وذهب إلى المدينة يعرض موقفه الدقيق، ويدافع عن رأيه في الخروج منه.
ترى كيف يواجه عمر هذه الأمور كلها؟ في هذا وفيما يتصل به بات يفكر ليله، ضارعا إلى الله أن يلهمه الرأي، وأن يهديه الصراط السوي، إنه سيرى المثنى في طليعة من يراهم متى أصبح، وسيطلب المثنى إليه ما طلبه إلى أبي بكر من قبل، أن يعينه بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، وسيردد المثنى أن التائبين من أهل الردة يطمعون في مغانم الغزو، فلا أحد أنشط إلى الحرب منهم، وقد أوصى أبو بكر عمر في أمر العراق وصية لا بد من تنفيذها، إذ دعاه إليه وقال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به! إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
أفيندب الناس مع المثنى أم يدعه يستعين بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة؟ إنه ليخشى أن يتقاعس الناس إذا ندبهم بعد ما رأوا أصحابهم بالشام لا يستطيعون التقدم فيه، ورأوا المثنى بالمدينة خائفا من الفرس وصولتهم، ولكن المسلمين لا بقاء لهم بالعراق إذا لم تعزز قواتهم فيه بمدد قوي، والتفكير في الانسحاب من تلك البلاد أمر لا يخطر للمثنى ببال؛ فهو الذي دفع أبا بكر لغزوها، وهو الذي تقدم خالدا والمسلمين جميعا إليها؛ فليس هينا على نفسه أن يجلو عن بلد كان الطليعة في غزوه، وأن يجلو عنه وهو موقن بمقدرته على فتحه، ولو أن عمر أمده بالتائبين من أهل الردة، لتابع الفتح ففض على كسرى إيوانه.
ولم يخطر الانسحاب من العراق ببال عمر كذلك؟ فإنما استخلفه أبو بكر ثقة منه بأنه أقدر المسلمين على متابعة سياسته ولا سبيل إلى متابعة هذه السياسة إلا أن يأخذ الأمر بالحزم، وأن ينفذ وصية الصديق فيندب الناس مع المثنى، وأن يعزز قوات المسلمين بالشام، أترى وجوه المسلمين وأصحاب رسول الله الذين برموا باستخلافه يعاونونه في ذلك صادقين؟ وإذا ترددوا في معاونته فما عساه يصنع؟ وماذا يكون من أثر ترددهم في العرب وفي ولائهم للمدينة؟ ألا إن سياسة الحزم وحدها هي التي تنجح في هذا الموقف، والحزم لا ينقص عمر، فليعزم الأمر، وليتوكل على الله!
بات عمر وقد عناه التفكير في هذا كله، وأصبح فخرج إلى الناس بالمسجد، فأقبلوا على بيعته إقبالا سكن بعض ما جاشت به نفسه، فلما كان الظهر وازدحم الناس للصلاة، صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي كان يقوم أبو بكر عليها، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر وفضله ثم قال: «أيها الناس! ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم.» قال هذه العبارة متأثرا في تواضع ورفق أخذ بهما الناس ورأوا فيهما دليلا على صدق فراسة الصديق فيه، وبعد نظره في استخلافه، فأثنوا على عمر خيرا وزادهم ثناء عليه أن رأوه يتوجه بنظره إلى السماء ويقول: «اللهم إني غليظ فليني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني!» وأمسك عمر هنيهة حتى سكن الناس، ثم قال: «إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.»
Shafi da ba'a sani ba