لقاتلتهم على منعه!» وكان عمر من هؤلاء المخالفين القائلين بموادعة من أرادوا منع الزكاة والاستعانة بهم على المرتدين، وقد كان عنيفا في تأييد رأيه، حتى لقد وجه الكلام إلى أبي بكر في شيء من الحدة يقول: «كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله!» وأجاب أبو بكر على اعتراض عمر بقوله: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: إلا بحقها.» مع هذا الخلاف في الرأي، ومع أن أبا بكر حمل التبعة كاملة فقاتل الذين منعوا الزكاة وظفر بهم، لم يتغير ما بين الرجلين من ود، وسار عمر إلى جانب الصديق مجاهدا في صفوف المسلمين، إنه رجل نظام، وأبو بكر هو المسئول عن شئون الدولة، فواجب عمر أن يشير برأيه، وواجبه كذلك أن يطيع أمر الخليفة متى أمر، وقد فعل، ثم بقي الوزير الذي يسمع لقوله وتقدر مشورته.
ظفر أبو بكر بالذين منعوا الزكاة، فكان ظفره حجة ملموسة لرجاحة رأيه وحسن سياسته، ويروى عن عمر في هذا الشأن أنه قال: «والله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.» فلما عزم أبو بكر بعد هذا النصر أن يقاتل المرتدين في أرجاء شبه الجزيرة جميعا لم يخالفه أحد، ولعل المسلمين رأوا في الرجل الذي لزم الرسول عشرين عاما سويا نفحة من روح الرسول جعلته يرى بنور الله ما لا يرون، ويلهم من الرأي ما لا يلهمون، وسارت جيوش المدينة بإمرة عمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى قضاعة وإلى بني أسد تحارب المرتدين وتردهم إلى دين الله، والمسلمون مطمئنون إلى نصر الله جنده المجاهدين في سبيله، وابن الخطاب مقيم إلى جانب الخليفة يشير عليه بالرأي ويدبر وإياه سياسة الدولة.
وقضى خالد بن الوليد على الردة في بني أسد، وانتقل من منازلهم إلى البطاح يقضي على الردة في بني تميم، فقتل زعيمهم مالك بن نويرة وتزوج من امرأته،
3
مخالفا بذلك تقاليد العرب إذ كانوا يجتنبون النساء في الحرب.
غضب أبو قتادة الأنصاري لمقتل مالك بن نويرة بعد ما أظهر إسلامه، وظنها حيلة من خالد ليتزوج الجميلة ليلى، وكان يقال: إنه يهواها في الجاهلية، وذهب أبو قتادة ومتمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة، ولقيا أبا بكر وقصا عليه ما رأيا، فلم يزد على أن ودى مالكا، وكتب برد السبي، ثم أنكر على أبي قتادة أن يطعن في خالد أو أن يتهمه، وتحدث أبو قتادة إلى عمر بن الخطاب، فشاركه عمر في رأيه وانطلق يطعن معه على خالد وينال منه، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر محنقا وقال له: «إن في سيف خالد رهقا، وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله؛ لذلك قال حين ألح عمر عليه: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكف هذا الجواب عمر، فلم يكف عن المطالبة بعزل خالد، حتى ضاق الخليفة بإلحاحه فقال له: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم سيفا سله الله على الكافرين!»
هذا جواب حاسم لا ريبة معه في أن أبا بكر لن يعزل خالدا، أترى عمر اكتفى به، مطمئنا إلى أنه أدى واجبه في المشورة، وإلى أن واجبه بعد ذلك أن ينزل على رأي الخليفة وألا يثير الشبهة فيه؟ كلا! فقد كان عمر ثائرا بخالد ثورة جعلته يبالغ في النيل منه، فيجمع من حوله متمما وأبا قتادة ومن لف لفهما، ويستنشد متمما شعره في رثاء مالك، ويظهر الرضا عنه وعما يقول، وكيف لعمر أن تطيب نفسه فيسكت عن رجل قتل امرأ مسلما ونزا على امرأته، فوجب رجمه! ليكن هذا الرجل سيف الله! وليكن خال عمر وابن عم أمه! وليكن له من الفضل في قتال المرتدين ما له! إن الأمر يتصل بنظام الجماعة والمحافظة عليه، ولا شيء أضر بهذا النظام من التفريق بين الناس في المعاملة، والتسامح مع أحدهم في أمر يؤخذ به غيره ويعاقب عليه؛ لذلك لم يهدأ ثائره حتى استدعى أبو بكر خالدا إلى المدينة، ولا يشك عمر في أن الخليفة سينتهي إلى رأيه فيعزل القائد العبقري، لكن أبا بكر لم يصنع إلا أن عنف خالدا على التزوج من امرأة لم يجف دم زوجها، ثم تجاوز عما كان من قتله مالكا ومن معه من بني تميم، وأمره أن يسير ليلقى مسيلمة ورجاله باليمامة، مطمئنا إلى أن الله سينصر خالدا على بني حنيفة، فيصهره النصر وينسى الناس زواجه من ليلى.
لم يتزحزح عمر مع ذلك عن رأيه فيما صنع خالد وفي وجوب عزله وكان لهذا الإصرار أثره من بعد حين تولى عمر إمارة المؤمنين، فقد عزل خالدا عن إمارة الجيش أول ما تولى، ثم عزله من بعد ذلك عن عمله في الجيش كله، وسنقص تفصيل ذلك ورأينا فيه في مواضعه من هذا الكتاب.
لم ترو كتب التاريخ أن أبا بكر وعمر اختلفا في أمر ما اختلفا في أمر خالد، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين واتجاه كل منهما في سياسة الدولة، فقد كان عمر يرى أن لا عذر لرجل عن إثم إلا أن يكفر عنه، بذلك يستقر الأمر، ويقوم نظام الحكم على أساس متين من المساواة الصحيحة، والكبراء الذين يأتمون أكبر جريرة عنده، فالعفو عنهم أشد على نظام الجماعة خطرا، أما أبو بكر فكان يذكر أن رسول الله هو الذي سمى خالدا سيف الله، وأنه إذا وجب أن تدرأ الحدود بالشبهات في أوقات السلم، فأوجب أن تدرأ بها في أوقات البأس والخطر، وقد كان المسلمون في حاجة إلى خالد وعبقرية قيادته يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل لذلك لم يعزله أبو بكر، بل وجهه إلى مسيلمة باليمامة فقضى عليه، ثم وجهه إلى العراق ففتحه، ثم نقله إلى الشام فأنسى الروم به وساوس الشيطان.
Shafi da ba'a sani ba