ورأى النبي خلافهم فقال: «قوموا، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف.» ولم يكتب، ولعله قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره، لما عرف من صدقه في إخلاصه وصراحته في رأيه،
والرجل أجدر باحترامنا وإكبارنا ما أنكر ذاته فصدر رأيه عن إخلاص للخير العام وحرص عليه، وكان عمر في ذلك خير مثل، وقد رأيت فيما قدمنا من آرائه كيف تنزه عن كل شائبة، بل لقد رأيته كيف ود أن يحرم الله الخمر ولم تكن محرمة، وقد كان في جاهليته رجل خمر يحبها ويتوفر على شرابها، فهو إنما ود أن تحرم حرصا على خير الجماعة وتماسكها وقوة نظامها، ثم إنه كان من أشد الناس زهدا في المال، فكان إذا أعطاه رسول الله مالا من فيء غنمه المسلمون قال: أعطه أفقر إليه مني، وقال ذلك يوما لرسول الله فقال له: خذه فتموله وتصدق به.
بل لقد بلغ من زهده أن أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ وأجابه رسول الله: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها.» فتصدق عمر بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقا غير متمول فيها، وقال: إنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، فكانت هذه أول صدقة تصدق بها في الإسلام، وكانت الأصل الأول لنظام الوقف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
رجل ذلك شأنه وهذا زهده لا عجب أن كان موضع التقدير والاحترام من كل المسلمين على ما كان في خلقه من شدة وغلظة، وموضع المحبة والإكبار من رسول الله حتى كان يدعوه يا أخي. استأذنه عمر يوما في العمرة فأذن وقال له: «لا تنسنا يا أخي من دعائك.» وكان عمر كلما ذكر هذه الكلمة يقول: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: «يا أخي».
وإخلاصه وتنزهه عن الهوى وحبه العدل هو الذي أبقى الفاروق لقبا له، وقد اختلف فيمن سمى عمر الفاروق، روي عن عائشة أنها سئلت عن ذلك فقالت: النبي عليه السلام، وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق به بين الحق والباطل.» وذكر ابن سعد في الطبقات عبارة بإسنادها نصها: «بلغني أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba