على أن المسلمين ما لبثوا، حين عرفوا أن رسول الله لم يمت، أن عادوا إلى إيمانهم بأن الله ناصر رسوله، فأسرع إليه أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط غيرهم يمنعونه، وعرف خالد بن الوليد مكانهم، فعلا الجبل على رأس فرسان معه يريد أن يقضي على محمد ومن حوله، لكن عمر بن الخطاب ورهطا من المسلمين واجهوا خالدا وفرسانه، وقاتلوهم مستميتين دفاعا عن الرسول فردوهم على أعقابهم، ولم يصل خالد إلى بغيته.
قدمت أن ما حدث به عمر عن الأذان للصلاة يشهد بأن دين الحق كان قد أخذ على هذا الرجل القوي مسالك نفسه، فجعله لا يفكر في شيء تفكيره فيه وفي النظام الذي يزيده عزا وانتشارا، وموقف عمر من أسرى بدر ونزول الوحي فيهم مؤيدا رأيه، ووقفته في وجه خالد بن الوليد قبل أن يفاجئ النبي ومن معه، هذان الموقفان يدلان أبلغ دلالة على استئثار دين الله بنفس عمر استئثارا جعله يتعصب له ويشتد في نصرته، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان عمر منذ نشأته مؤمن القلب بما يعتقده، وإذا آمن القلب وهب المؤمن نفسه هبة خالصة لما يؤمن به، لقد رأينا مواقف عمر في جاهليته؛ رأينا تعصبه لقريش على غيرها من القبائل، وتعصبه لدين قريش على دعوة محمد تعصبا جعله يشارك في تعذيب المسلمين الأولين؛ فلما هدى الله قلبه إلى الإيمان به، ووقف في جانب دين الله ينصره بالحمية التي كان يقاتله من قبل بها، والآن قد عز المسلمون بدينهم ونبيهم، فلا شيء يعدل عند عمر أن ينصر هذا الدين وأن يضحي له بكل شيء، وأن يضحي في سبيله بحياته، وما أصابه وأصاب المسلمين من يأس حين تحدثت قريش بوفاة النبي، كان بعض هذا التعصب للدين تعصبا جعل الحزن يخرج بعمر عن سداده، فلما عرف أن رسول الله حي أقبل يلقي بحياته في سبيل ما آمن به قلبه، فنصره الله على القائد العبقري الذي اعتزت به قريش والذي كسب لها أحدا.
على أن إيمان عمر وتعصبه لهذا الإيمان لم ينهنها من اعتزازه بنفسه واعتداده برأيه أمام رسول الله نفسه، وقد كان عمر في هذا الاعتزاز بالرأي من أقوى المسلمين شكيمة وأبلغهم حجة، صحيح أن المسلمين جميعا كانوا لا يعرفون الجمود، وكان صاحب الرأي منهم يشير على رسول الله ويجادل لينصر رأيه أو يقتنع بنقيضه، شأنه في ذلك شأن المؤمنين في عهود الثورة، إذ يريدون أن يبلغوا بها إلى أسمى ما تنطوي عليه مبادئها، لكن عمر كان أصرحهم وأكثرهم جرأة ، لم يمنعه حبه رسول الله وعظيم إيمانه برسالته أن يدلي أمامه برأيه وأن يصر عليه، وأنت قد رأيته في موقفه من أسرى بدر كيف طلب أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو بعد ما قبل المسلمون فداء هؤلاء الأسرى، وسنرى له مثل هذه المواقف من بعد في صحبة رسول الله وفي خلافة أبي بكر، ثم نرى من اجتهاده في حياة الرسول ما أقر القرآن بعضه، كما نرى الكثير من الأحكام والمبادئ التي اجتهد فيها برأيه بعد وفاة الرسول باقيا يأخذ المسلمون به إلى اليوم.
لما سار رسول الله لقتال بني المصطلق وفرغ منهم، ازدحم رجلان من المسلمين على الماء واختلفا فاقتتلا، وكان أحد الرجلين من المهاجرين والآخر من الأنصار؛ فصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين! وصرخ صاحبه: يا معشر الأنصار! عند ذلك قال عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة لمن حوله: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أمرنا وإياهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.» وبلغت هذه المقالة رسول الله وعنده عمر بن الخطاب فهاج هائج عمر فقال: يا رسول الله! مر به عباد بن بشر فليقتله، وأجابه رسول الله فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! وأمر أن يؤذن بالرحيل في ساعة لم يكن المسلمون يرتحلون فيها.
وذهب ابن أبي إلى رسول الله ينكر ما قال، فنزل الوحي بتكذيبه، عند ذلك ذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مسلما حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله! إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار.» وأجابه رسول الله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.» وأقام ابن أبي بعد ذلك ينظر إليه أهل المدينة شزرا ولا يقيمون له وزنا، وتذاكر النبي يوما شئون المسلمين مع عمر، وتناول الحديث ذكر ابن أبي وتعنيف قومه إياه، فقال رسول الله: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.» قال عمر: «قد والله علمت لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم بركة من أمري.»
ولما مات عبد الله بن أبي هم النبي بالصلاة عليه، فقام عمر يذكر كيد الرجل للإسلام ونكايته به، ويذكر قوله تعالى:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، وابتسم النبي لحماسته في الطعن على رجل مات وقال: «لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت.» وصلى عليه ومشى معه حتى فرغ من دفنه، وقد نزل بعد ذلك قوله تعالى:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره .
Shafi da ba'a sani ba