ذلك ما حدث، وسيرى القارئ من بعد كيف حدث.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
مصر في يد المسلمين
كان فتح الإسكندرية إيذانا بأن بلاد مصر آلت كلها إلى المسلمين؛ فقد استولى خارجة بن حذافة على بلاد الصعيد إلى حدود طيبة، فلم يبق من الروم إلا عدد قليل لم يغامر بعد فتح العاصمة بقتال، ولم ينازع الفاتحين السلطان، وما كان هؤلاء الروم ليغامروا، وهم يعلمون ما يضمره القبط لهم من كراهية، بسبب ما أصابهم في أرزاقهم وفي دينهم من اضطهاد، وقد بلغ من أمر هذه الكراهية أن كان القبط إذا رأوا روميا منفردا قتلوه، ثم لا يعرف أحد من قتله، ولم يكن ذلك حبا من القبط للغزاة أو ترحيبا بمقدمهم؛ فقد كان أهل الصعيد بعيدين عن سلطان المسلمين في تلك الأيام الأولى من عهد الفتح، ولم تكن في نفوسهم حفيظة عليهم، بل كانت كل حفيظتهم على الروم الذين أذاقوهم النكال قرونا متطاولة.
وقد استولت الكتائب التي سارت في بلاد الدلتا على أكثر قراها، ونشرت سلطانها في أرجائها؛ فلم تقاوم تلك الكتائب إلا البلاد المحصنة، ثم إن هذه البلاد بقيت محصورة لا تستطيع أن تقهر الغزاة وإن استطاعت أن تدفع عن نفسها، فلما فتح عمرو الإسكندرية فتح الكثير من هذه البلاد أبوابها؛ لأنها أيقنت أن العرب سيضيقون الخناق عليها فلن تطول مقاومتها، أما البلاد القريبة من ساحل البحر الأبيض فظلت على مقاومتها، ولم تدخل فيما دخل الناس فيه من عهد.
وقد يرجع ذلك أن هذه البلاد كانت بها مسالح من الروم، ظن جندها أن مصيرهم إلى الهلاك إن سلموا أو قاموا، فدفعتهم فطرة المحافظة على النفس إلى المقاومة، وقد يرجع كذلك إلى أن المصريين من أهل هذه البلاد ترامت إليها عن قسوة المسلمين أنباء حملتهم على التحصن والمقاومة، فلا شك في أن دعاية الروم كانت تذيع، بكل ما عرف من وسائل الإذاعة لذلك العهد، أن المسلمين يسيئون معاملة القبط ويرهقونهم ويأخذون أرزاقهم غصبا، وأنهم يكرهون الناس على إنكار مسيحيتهم ليتخذوا الإسلام دينا، وإنك لتجد من هذه الأنباء، فيما نقله بتلر عن حنا النقيوسي، ما لعله يفسر مقاومة بلاد لا أمل لها في نجاح مقاومتها، ومع ذلك قاومت حين شاع بينها ما أذاعه الروم عن الغزاة المسلمين مما روع أهلها وحملهم على الاستماتة في القتال.
ويذكر المؤرخون أسماء بعض المدن التي قاومت، ومنها «إخنا» على مقربة من الإسكندرية، و«بلهيب» في جنوب رشيد، والبرلس ودمياط وتنيس، ويروون حوادث وقعت بين الغزاة وأصحاب هذه البلاد لبعضها دلالة خاصة ، فقد أراد «طلما» صاحب إخنا مصالحة عمرو، فلم يعجب عمرا كلامه، وأمر رجاله فساروا إلى إخنا وأخذوا منها أسرى مع أنها سلمت من غير مقاومة؛ ولذا رد عمرو أسراها الذين أرسلوا إلى المدينة، وجعلهم أهل ذمة، وحدث ببلهيب مثلما حدث بإخنا، ويقال إن عمرا تسلم وهو عند بلهيب كتابا من الخليفة يطلب إليه أن يخير الأسرى، فمن دخل الإسلام كان للمسلمين أخا، وسمع الأسرى بذلك، فأسلم كثيرون، فجعل المسلمون يكبرون لإسلام كل واحد منهم، وسار العرب من البرلس إلى دمياط فاستولوا عليها، وأصبحت لهم بذلك شواطئ البحر من العريش إلى الإسكندرية، مع ذلك لم تسلم تنيس ولم تفتح أبوابها للمسلمين، بل وقفت في وجوههم وناجزتهم القتال في مواطن كثيرة، وظلت كذلك حتى فتحت عنوة وغنم المسلمون أموالها وقسموها، وترجع مقاومتها إلى أنها كانت مدينة صناعية عظيمة كثيرة السكان، ثم كانت لها إلى ذلك مكانة ذاتية خاصة، وكانت ذات أسوار حصينة فيها تسعة عشر بابا مصفحة بالحديد الثقيل، وكان بها اثنتان وسبعون كنيسة، وستة وثلاثون حماما، ويذكر المقريزي أن تنيس ظلت على مقاومتها زمنا، فلما أبطأ فتحها خرج حاكم مدينة قريبة من دمياط اسمه شطا بن الهاموك، وكان قد أسلم، فجمع جيشا من البرلس ودميرة وأشمون طناح، وجهزه ولحق بالمسلمين وحارب معهم عدوهم، وأحسن البلاء في ذلك اليوم الذي فتحت فيه تنيس أبوابها، والذي قتل هو فيه، فأطلق اسمه على الموضع الذي خرج منه في شرق دمياط.
وكذلك تحطمت مقاومة الروم والمصريين الذين مالئوهم أو الذين طمعوا في الاستفادة من هذه الحروب لاستقلال بلادهم، وأصبح الأمر في مصر خالصا للمسلمين من شواطئ بحر الروم إلى بلاد النوبة.
وكان لعمرو أن يستريح بعد ذلك، وألا يتجاوز مصر إلى ما بعدها، لكنه قدر أن للروم قوات ببرقة وطرابلس قد تغريهم بالتحصن هناك، والتربص حتى تحين فرصة الثأر والرجعة إلى مصر؛ لذلك خرج في قواته، بعد أن اطمأن إلى استقرار الأمر في مصر، فسار من الإسكندرية إلى برقة، ولم يكن الطريق بينهما صحراويا مهملا مثلما هو اليوم، بل كان يجري في أرض خصبة، تحيط به من الجانبين زروع وفاكهة وكروم وعمران متصل؛ لذلك كانت مسيرة الفرسان المسلمين فيه نزهه ممتعة أدت إلى برقة، فلم يجدوا فيها مقاومة تذكر، والراجح أنها سلمت صلحا بعد مقاومة ضعيفة ورضيت أداء الجزية ثلاثة عشر ألف دينار كل عام.
Shafi da ba'a sani ba