لم يكتف صاحب السلطان من قبل قيصر بأن يأخذ منهم غلاتهم ومصنوعاتهم ليرسلها إلى بيزنطية مقابل الضرائب المفروضة عليهم، بل اعتبرت الأرض ملكا تفرض على أصحابها جزية، وإن شئت فقل تكليفا، يدفعونها أجرا للأرض التي يزرعونها ... وربما احتمل الناس الضريبة والجزية بشيء من الصبر أيام الرخاء، لكن مصر عادت إلى هرقل في سني شدة وبأساء، فقد انتهى الإضراب في عهد فوكاس إلى تعطيل القناة التي كانت تصل البحر الأحمر بالنيل فالبحر الأبيض، ثم لم يعدها الفرس ولم يعدها عمال هرقل، فتدهورت التجارة تدهورا أفلس بسببه كثير من اليهود واليونان المشتغلين في أسواق الإسكندرية وتدهورت أسعار الحاصلات والمصنوعات في داخل البلاد تدهورا أدى إلى أزمة انزعج لها الناس أيما انزعاج، وما قيمة صناعة الزجاج أو صناعة المنسوجات أو صناعة الورق من البردي أو غيرها من الصناعات المصرية التي كانت زاهرة في مصر السفلى وفي مصر الوسطى، إذا لم تجد أسواقا في الخارج لتصريفها، واقتصر أمرها على أن تؤخذ جزية لقيصر! لذا كره الناس حكم الروم، وودوا لو استطاعت مصر أن تتخلص منه وأن تستقل بنفسها، لكن الروم كانوا قد حرموا على مصر صناعة الأسلحة واستعمالها، وكانت الطبقة المستنيرة من المصريين الموظفين في الدولة قد ذلت لوظائفها، فلم يكن بد من التذرع بوسيلة ينفس بها الشعب عن نفسه، وذلك بأن ينزع للثورة، وسرعان ما جاء قيرس بالمذهب المسيحي الجديد يحاول فرضه على مصر حتى هب رجال الدين في وجهه يلعنونه، بذلك فتحوا للشعب بابا يروي ظمأه للانتقاض، فكان الاضطهاد الأعظم الذي رأيت، والذي زاد المصريين كراهية لقيصر ولقيرس ولحكمهما ولمذهبهما الجديد.
لم يكن علم ذلك كله ليخفى على أمير المؤمنين ولا على المستنيرين حوله من المسلمين، فقد دام الاضطهاد والتعذيب في مصر عشر سنوات، بدأت قبيل وفاة النبي واستمرت طيلة خلافة الصديق، وظلت متصلة في عهد عمر إلى أن دخل العرب مصر، وفي هذه السنوات العشر كان المصريون والعرب يتبادلون التجارة كما كانوا يفعلون من قبل، فكانت أنباء العرب البارزة تبلغ المصريين، وكانت أنباء المصريين البارزة تبلغ العرب، وزاد العرب علما بأنباء مصر متاخمتهم لها بالشام، ولا جرم قد كان عمرو بن العاص من أكثر الناس بها علما؛ إذ كان بفلسطين، أدنى الأرض من ميدان الاضطهاد والتعذيب، ومن ثورة المصريين بقيصر وبعماله؛ لذلك لم يغب عنه أن شعب مصر المضطهد لن تأخذ منه الحماسة فيعاون الروم إذا قاتلهم العرب في أرض مصر، وإن أيقن أن هذا الشعب لن يقاتل الروم في صف العرب من خشية أن تدور على العرب الدائرة، ولأنه ليس بينه وبين العرب صلة تثير الحماسة في قلبه، فهو ليس من جنسهم، وليست لغته لغتهم ولا عقيدته عقيدتهم.
وزاد ابن العاص اقتناعا بما ظنه من فتور المصريين عن نصرة الروم ما كان الناس في مصر وفي غير مصر يعرفونه يومئذ عن سياسة المسلمين، وأنها كانت تدع الناس أحرارا في دينهم، لا تحاول صرفهم عنه أو حملهم على تغييره، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن استمسك بدينه ورضي الجزية فله ما اختار، أما وقد كان الاضطهاد الديني دعامة الثورة بالروم، ثورة تتلظى بها نفوس المصريين جميعا، فلا عجب أن يلقوا تسامح المسلمين الديني بالغبطة، وأن يقفوا من قتالهم الروم موقف المتفرج: لا يغضبون الروم بمظاهرة المسلمين عليهم، ولا تدفعهم لقتال المسلمين حماسة لعقيدة مشتركة بينهم وبين حكامهم، أو طمأنينة إلى عدل يسوي بينهم وبين هؤلاء الحكام.
لقي ابن العاص أمير المؤمنين حين جاء إلى الشام بعد طاعون عمواس، وسار معه من الجابية في أرجاء فلسطين وسورية، وجعل يعيد على سمعه ما كان قد فاتحه فيه من أمر مصر، ويذكر له ما سبق إلى ذكره من حجج تؤيد رأيه، ويدلي إليه بحجج جديدة، حين انتهى عمر إلى الاقتناع برأيه، وإن استمهله في تنفيذه حتى يكتب إليه من المدينة بعد عوده إليها.
وزاد عمر ميلا إلى الاقتناع بهذا الرأي ما يعرفه من جرأة ابن العاص في الحرب، ودهائه في السياسة، واقتداره لذلك على أن يسير بإذن الله في ذلك الفتح سيرا موفقا، وقد دلت الحوادث على أن أمير المؤمنين لم يخطئ في تقديره، وأن شخصية عمرو وما اجتمع فيها من الدهاء والإقدام قد جعلته الرجل المختار في فتح مصر، فلم تكن جرأته في الحرب جرأة مغامرة كجرأة خالد بن الوليد، بل كانت جرأة الداهية الذي يرى النجاح في المكث أكثر مما يراه في الحث ، ويرى المطاولة والصبر حتى تحين فرصة الإقدام، وحين يثق بأن النجاح حليف هذا الإقدام، هذا إلى أن دهاءه كان يجنبه إثارة غير المحاربين به، فكان يؤثر ملاينتهم في حزم على البطش بهم إلا أن يضطر إلى البطش اضطرارا فإذا اضطر إليه لم يتردد دونه، على ألا يتجاوز به قدر الحاجة إليه، ثم إنه كان أكثر أمراء الجند إيمانا بأن الحرب خدعة، فليس للمعايير المعروفة للفضل والنبل وزن في أثنائها، قائد ذلك شأنه جدير بتوفيق الله إذا سار لفتح مصر.
وكان عمرو بن العاص في العقد الخامس من عمره، أو كان قد تجاوزه، حين فكر في فتح مصر،
4
وكان قصير القامة، عظيم الهامة، ناتئ الجبهة له عينان سوداوان ثاقبتان تنمان عما يتأثر به في حالي سروره وغضبه، يعلوهما حاجبان غزيران، ومن دون ذلك فم واسع ولحية عظيمة ترسم من حولهما سيما البشر والأنس، وكان عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكفين والقدمين؛ لذلك كان مظهره ينم عن القوة في غير شدة، وكان فارسا متفوقا في فنون الفروسية والضرب بالسيف، قوي البنية مرن الأعضاء، مرونة وقوة عودتاه احتمال المشقات، وكان إلى ذلك راجح العقل، كثير الأناة واسع الحيلة، فصيح اللسان مفتنا في أساليب الكلام؛ لذلك بعثت به قريش إلى الحبشة أول ما هاجر المسلمون إليها ليحمل النجاشي بقوة حجته على ردهم إلى مكة، وقد أبدى من حسن الحيلة في محاولته ما يشهد بمقدرته، وإن لم يوفق لتحقيق الغاية من سفارته.
وقد هداه رجحان عقله من بعد إلى الإسلام، ذلك أنه رأى رسول الله هاجر إلى المدينة، ورأى كلمته تعلو بين العرب، فساوره الشك في مقدرة قريش على النيل منه فآثر أن ينصرف إلى تجارته ينميها، وعاد سيرته الأولى يسافر في هذه التجارة إلى الشام واليمن والحبشة ومصر، فلما كانت غزوة الأحزاب واشترك مع أهل مكة فيها فآبت قريش بالهزيمة، أيقن أن قريشا لم يبق لها بمحمد قبل، عند ذلك جمع رجالا من قريش وقال لهم: «والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير.» وأقر سامعوه رأيه وساروا معه إلى الحبشة وقد قر رأيهم على المقام بها حتى ينتهي ما بين قريش ومحمد إلى وضع ثابت، فلما عقد محمد عهد الحديبية مع قريش فتهادنا عشر سنين، واتفقا على ألا يدخل محمد مكة عام العهد وأن يدخلها للعمرة العام الذي يليه، أيقن عمرو أن أمر محمد يزداد علوا، وأن مقامه بالحبشة سيطول، فلما استدار العام، وعرف أنباء عمرة القضاء وما كان من دخول المسلمين مكة وطوافهم بالكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة، أيقن أن محمدا على الحق، فخرج إلى مكة فلقي خالد بن الوليد متأهبا للسير إلى المدينة ليسلم، فذهب الرجلان فأسلم ابن الوليد وبايع، ودنا ابن العاص من محمد فقال: «يا رسول الله! إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.» وأجابه محمد: «يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.» فبايع عمرو وانصرف.
ترى هل اندفع عمرو إلى الإسلام بعد ما أيقن أن محمدا منتصر على قريش لا محالة فآثر أن يسبق قومه إلى صف المنتصر؛ أم أنه تدبر رسالة محمد حين طال مقامه بالحبشة فآمن بها فدعاه إيمانه إلى أن يسلم؟ روي أن فتى من قريش ذهب إليه فقال له: يا أبا عبد الله! إن القوم قد ظنوا بك الميل إلى محمد؛ فواعده عمرو ميقات الظل من جبل حراء، فلما التقيا سأل عمرو الفتى: أنشدك الله، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ وأجابه الفتى في غير تردد: بل نحن، فاستطرد عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن لنا هذه الدنيا وهم فيها أكثر أمرا! قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق ليجزى المحسن في الأخرى بإحسانه والمسيء بإساءته.
Shafi da ba'a sani ba