قدمت أن رأي عمر هو في نظري أدق تصويرا للقدرية الإسلامية، وهو يتفق كذلك مع الجبرية العلمية كما نفهمها نحن في هذا العصر، وكما فهمها فلاسفة الإغريق منذ أكثر من ألفي سنة، وهذه الجبرية تذهب إلى أننا غير مختارين في رأي أو عمل، وأن اختيارنا لهذا الرأي أو ذاك، ولهذا الأمر أو ذاك، يتأثر بعوامل كثيرة لا سلطان لنا عليها، من بيئتنا ووراثتنا ونشأتنا التعليمية وحالنا الصحية كما يتأثر بغرائزنا الإنسانية وبأهوائنا الذاتية، وكثيرا ما وجه حياتنا ووجه تفكيرنا وعملنا حادث طارئ لم يكن في حسباننا ولا في حسبان غيرنا، والبيئة والوراثة والنشأة والغرائز والأهواء والطوارئ كلها من قدر الله الذي لا نملك له تحويلا ولا تبديلا؛ لذلك كان فارا إلى قدر الله من يفر من قدر الله.
أدت الحرية العقلية إلى تبادل الاحترام بين المسلمين الأولين، فلم يكن ما حدث من خلاف في الرأي بين عمر وأبي عبيدة ليمنع عمر من التفكير في استخراج صاحبه من أرض الوباء إبقاء عليه لخيره وخير المسلمين، والكتابان اللذان تبودلا بين الرجلين في هذا الشأن يقفان النظر ويثيران في الذهن شتى الفكر، فأنت إذا نظرت إليهما من ناحية العاطفة رأيتهما مثلا في الوفاء قل نظيره؛ وفاء من عمر لأبي عبيدة أمين الأمة وصاحبه في السقيفة والقائد السياسي الذي رضي أهل الشام حكمه، ووفاء من أبي عبيدة لجنوده الذين خاضوا معه المعارك وبذلوا أنفسهم في سبيل الله وأظفروه بالروم أيما ظفر، وإن أنت نظرت إليهما من ناحية الخير العام للدولة الناشئة رأيت الرجلين يختلفان رأيا على هذا الخير وهما يلتقيان مع ذلك عنده، فعمر يعرف قدر أبي عبيدة وما للمسلمين من خير في بقائه، ويرى لذلك إنقاذه من وباء فتاك لا فخر لمن يموت به، وأبو عبيدة يعرف واجبه لجنده ويرى مغادرته إياهم نجاة بنفسه شر مثل يضرب لهم ولمن دونه من أمرائهم، هذا إلى أن كلا من الرجلين يستمسك في كتابه برأيه ، فلا يرى عمر بأسا من أن يفر الإنسان من قدر الله إلى قدر الله، وهو يدعو أبا عبيدة إلى هذا الفرار، ويصر أبو عبيدة على ألا يفر مما كتب في لوح القدر وإن رأى الموت جاثما أمامه، فيبقى بالشام فيموت راضيا بقضاء الله وقدره، ويقرأ عمر كتاب أبي عبيدة، ويرى مخالفته له وعدم إذعانه لأمره، فلا يثور ولا يغضب، ولا يرى في هذه المخالفة خروجا على واجب النظام، بل تأخذه الشفقة بصاحبه فيبكي إذ يراه وكأن قد مات.
هذه الثقة بين أمير المؤمنين وكبار المسلمين، مع إكباره لهم واحترامه رأيهم، كانت من عناصر القوة التي دفعت فتحهم، فأسرع ونجح في أحوال رأينا من دقتها في القادسية وفي شمال الشام شهيدا على ما كان لإيمان المسلمين بالله من فضل في إقدامهم وجرأتهم، وقد زادتهم هذه العناصر ثباتا وقوة، فقد كانت الحرية المحترمة والثقة المتبادلة قوام الإمبراطوريات الكبرى التي اكتسحت العالم في عصور مختلفة، فوجهت سياسته وأقرت فيه حضارة تقدم بها خطوات في سبيل الكمال.
لا أريد أن أختم هذا الفصل من غير أن أشير إلى ما كان لأمر عمر بعزل شرحبيل بن حسنة عن إمارة الأردن وإقامة معاوية بن أبي سفيان أميرا على الشام كله من أثر أدى من بعد إلى قيام الدولة الأموية، وإلى انتقال العاصمة الإسلامية من المدينة إلى دمشق، وإلى اختلاط العرب بغيرهم من العناصر التي دخلت في دينهم اختلاطا جعل الدولة الناشئة تتطور لتصير إسلامية أكثر منها عربية، فقد كان عمر لإكرامه بني هاشم لا يوليهم في البلاد المفتوحة، بل كان يبقيهم بالمدينة مع كبار الصحابة ليشيروا عليه، وقيل له في ذلك فقال يوما لابن عباس: «إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل الناس وترككم ... والله ما أدري احترمكم عن العمل ورفعكم عنه وأنتم أهل ذلك، أم خشي أن تهاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم، ولا بد من عتاب.» وكان معاوية رجلا حكيما عصمته حكمته أن تغشي مطامعه على بصيرته، حليما صانه حلمه عن بطش القدرة، ثاقب النظر يتألف الناس بسلطانه ويجذبهم إليهم بحسن حديثه وحسن حيلته، وطال عهده بالشام بقية عهد عمر، ووليه أيام عثمان، فانتهت سياسته بأهل الشام إلى تعلقهم به والتفافهم حوله ومناصرتهم له حتى على الأدنين من أهل بيت رسول الله، فكان لذلك من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما كان.
ولم يكن عمر ليقدر ما حدث من ذلك بطبيعة الحال، فقد سكنت منافسات بني عبد شمس وبني عبد مناف منذ أسلم أبو سفيان وقومه بفتح مكة، وقد رأيت أبا سفيان وبنيه وصدق إخلاصهم في أثناء وقائع الفتح؛ لذلك نسي الناس الحفائظ القديمة، فلم تثر إقامة معاوية على إمارة الشام في نفس شبهة، ولم يفكر أحد فيما ترتب من بعد عليها، وهل كان لأحد يومئذ أن يفكر في أن الثورات الكبرى كالعواطف الهوجاء، تقتلع، وتذر وراءها من الآثار ما تذر، ثم تبقى كوامن الأرض كما هي، لتنبت بعد مرور العاصفة نباتها القديم في صورة تلائم الجو الجديد؟
أقر عمر الأمور في الشام، ثم ودع أهله وعاد إلى المدينة مطمئنا إلى زوال الهولين اللذين نزلا بالمسلمين، واستقر بهما زمنا سار بعده إلى مكة على رأس المسلمين يؤدي فريضة الحج كعادته كل عام، فلما فرغ منها عاد إلى المدينة يستقبل من أنباء الفرس ومن أنباء الروم في مصر ما يتجه به إلى سياسة جديدة يواجه بها أحداثا كان يرجو ألا تكون، فلننتقل معه لنستقبل هذه الأنباء، ولنرى من أثرها في سياسة الإسلام والمسلمين ما يفسح رقعة الإمبراطورية إلى حدود الصين من الشرق وإلى حدود تونس من الغرب.
هوامش
الفصل الخامس عشر
Shafi da ba'a sani ba