فملكتني الدهشة وقلت: «ماذا بك يا طارق؟ أحرق السفن؟» فصاح: «نعم أحرق السفن، واجعلها رمادا؛ حتى ييأس من لم يثبت الإيمان قلبه من الفرار.» «وأحرقت السفن أمام الجنود يا أمير المؤمنين، ووقف طارق بينهم خطيبا، ولا والله ما طرق أذني من مخلوق كلام بعد كلام النبوة أنفذ إلى القلب، وأدعى إلى الإقدام والاستهانة بالموت!
وسار الجيش يا أمير المؤمنين، وتقدم كأنه البنيان المرصوص، فذعر القوط، وأدركهم الوهل، ولمح طارق من بعيد كبيرهم لذريق وهو في سريره، وعليه مظلة مكللة بالدر واليواقيت فصاح: «هذا طاغية القوم! هذا هو بعينه، وإني والله لقاتله!» ثم خلص إليه فضربه بالسيف فقتله على سريره. فلما رأى القوم مصرع سيدهم طارت نفوسهم شعاعا، وتفرقوا أيدي سبأ كما تطير العصافير قذفت على دوحتها حجرا، وقد تركت طارقا وهو ينتقل من ظفر إلى ظفر، والحصون تنقض أمامه كأنها كثبان الرمال.
أما ما أفاء الله به علينا من الكنوز والغنائم ففوق إدراك العقل وتصوير الخيال.»
فقال مغيث بن الحارث فيما يشبه الدعابة: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما!» وزفر الخليفة زفرة طويلة وهو يقول: هذا كله من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن الخوف لا يزال يساورني، وأكثر ما أخشى أن يجتمع القوم بعد أن فجأتهم الهزيمة فيلموا شعثهم، ويعيدوا الكرة على المسلمين، وليس أقوى من طالب ثأر، ولا أشد شكيمة من ذائد عن وطن، ونحن هناك في قلة، وليس وراء جنودنا ما يحميهم. هذه الوساوس تلعب بي منذ الصباح، ولن تقر لي عين، أو يستقر لي وساد، وأنا أرى المسلمين في خطر محدق وبلاء محيق.
فقال ابن همام: وليهدأ روعك يا أمير المؤمنين؛ فإن جنودك إنما يجاهدون في سبيل الله، وقد وعد الله في كتابه بنصر المؤمنين. - نعم يا عبد الله، ولكن يجب أن نعد لهم - كما أمرنا الله - ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.
وهنا وقف المغيث بن الحارث وقال: لو أمرني أمير المؤمنين بالرحيل لرحلت الساعة مع جنودي. - كم عدد جنودك؟ - سبعمائة بين فارس وراجل فقال الخليفة في نبرة حزينة: يا له من جيش لهام! - إن كل رجل في جيشي يعدل مائة. - هل أعددت العدة؟ - ثلاثة أيام تكفيني. - اذهب على بركة الله منصورا موفقا!
ثم تهيأ الخليفة للقيام فانصرف القوم، واتجه أبو القاسم المخزومي إلى المغيث فوضع ذراعه على كتفه في حنان الأبوة، ثم همس في أذنه قائلا: ما أعجبك يا بني! لقد كنا نعد العدة لزواجك ببنت أخي عائشة، فماذا أنت قائل اليوم؟ وكيف تنفض إليها الخبر؟ إن نبأ رحيلك سينقض عليها انقضاض الصاعقة، فأجمل لها الحديث يا بني وتلطف.
فقال المغيث وعلى وجهه سحابه من الحزن والقلق: لا تبتئس يا سيدي، فإن عائشة أشجع فتاة بدمشق، وهى لا تحب لمن اختارته لنفسها إلا أن يكون شجاعا مقداما. هلم بنا إليها.
عائشة المخزومية بنت هشام المخزومي من بيت عريق النسب، كريم الأرومة. كان أبوها من حماة الأموية وصناديدها، وكانت في ذلك الحين في العشرين من سنيها صبيحة مليحة رائعة القسمات، مشرقة البسمات، لها عينان يتألق فيهما السحر، وتتوثب الفتنة. ثم هي إلى ما منحها الله من الجمال البارع، والحسن الفاتن، تعتز بنفس عربية كريمة خلقت للشجاعة والإقدام وخطيرات الأمور. جسم تحسده حور الجنة الحسان، ونفس أمضى عزيمة من الصارم الفصال.
خطبها المغيث إلى عمها فرضيته بعلا لما عرفته وعرفه الناس فيه من البطولة والمروءة والطموح إلى العظائم. إلى قسامة وجه، ورجاحة عقل، وحسن أدب، ولطف حديث. وكان يزور دارها بين الحين والحين؛ فكانت كلما زادت به معرفة زادت به كلفا وحبا، وكلما زالت بينهما الكلفة ونمت الألفة، زاد إكبارها له وافتنانها بأدبه وخلقه العظيم؛ لذلك أصبح حبه خيال أحلامها بالليل، وسمير وحدتها بالنهار.
Shafi da ba'a sani ba