وتنادى الشجعان، واختلطت الأصوات، وعلا الصهيل والصليل، وطال الصراع ساعات، حتى إذا بلغت القلوب الحناجر، صاح الصائحون: إلى الجنة؛ إلى الجنة أيها الشهداء؛ لقد فتحت اليوم أبوابها، إن الحور العين ينظرن إليكم من خلال السحب، فأروهن أنكم أشوق منهن إلى اللقاء. النصر، النصر! لن يخفق للروم علم بعد اليوم!
وأخذ أبو فراس سمته
3
نحو الحصن وخلفه ضراغم العرب، وتكاثر عليه الروم فكان يطيح رءوسهم كما يحصد الزارع سنابل القمح، وما زال يصعد والفرسان خلفه، حتى وصل بفرسه إلى قمة الحصن، فخلع رايته وقذف بها في التراب، ثم صاح: الله أكبر؛ فردد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف قائدهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد سيف الدولة إلى أنطاكية، ووراء جيشه جيش ثان من الأسرى والغنائم.
وما كاد سيف الدولة يستقر في ضيافة قريبه أبي العشائر والي أنطاكية، حتى تقدم إليه الوالي وهو يأخذ بذراع رجل في هيئة الفارس، تجاوز الثلاثين، طويل القامة، خفيف الجسم، رقيق الشفتين، أصيد
4
العنق، في ملامحه كبرياء الواثق بنفسه، المعتد بها، وفي صدره المرتفع ما يدل على ما يجيش به من آمال جسام، تقدم أبو العشائر إلى سيف الدولة وهو يقول: هذا يا مولاي أحمد بن الحسين المتنبي الشاعر. وهو نادرة الفلك، وفخر عطارد، يريد أن يشيد بمحامد مولاي، وأن يسجل غزواته في جبين الدهور بشعره الخالد. فاشمأز أبو فراس قليلا لطول المديح وكثرة الإطراء، وعجب أن يوصف أمامه شاعر هذا الوصف، وزاد عجبه حينما رأى سيف الدولة يحتفي به ويجلسه إلى جانبه، وحينئذ علم أن زامر الحي لا يطرب، وأن النبي لا يكرم بين قومه. ووقف المتنبي وأنشد قصيدة ميمية وصف فيها انتصار سيف الدولة واستيلاءه على حصن برزويه، منها:
لقد مل ضوء الصبح مما تغيره
ومل سواد الليل مما تزاحمه
5
Shafi da ba'a sani ba