المتقد، فقد قسم السنة بين حبيبتيه، فكان يقضي ستة أشهر مع واحدة على الأرض وستة أشهر مع الأخرى في السماء.
ولما خرج الإنسان من الكهوف، وقعد في البيوت، ولبس الجلود المدبوغة بعد الفراء الضبعية، كان ذلك في لبنان. ثم تحلى بالخرز والزجاج والطرف المنوعة وكان ذلك عندنا. فأي طاغية لم يمر علينا! وأي جبار عنيد لم يجئ صوبنا! فالأشوريون والكلدانيون وفراعنة مصر والفرس واليونان والرومان والروم والعرب، والخلفاء الأمويون والعباسيون، والصليبيون، هذه الدول الكبرى كلها، جاءتنا يلي بعضها بعضا، بعد أن تنفذ في أرضنا نيران حروب تأكل الأخضر واليابس من زرعنا وضرعنا. تلك هي الجذوع أما الفروع والفسائل فلا تحصى، كالمعنيون والعسافيون والتركمان والأكراد ومماليك مصر والجراكسة حتى آل الأمر أخيرا إلى آل معن، والشهابيين الذين ورثوا لبنان عن المعني الكبير. ثم توارثوه واحدا بعد واحد إلى ان انقرضت إمارتهم بعد سنة الستين، وصار لبنان دويلة ذات نظام جمهوري، وهي الأولى في التاريخ الحديث، يلجأ فيه إلى انتخاب حاكم تتفق على اختياره الدول السبع الكبرى.
كان ذلك بعد ثورة تزعمها طانيوس شاهين، وهو بيطار من ريفون، فقتل وذبح وأحرق بيوتا، وشرد مشايخ وأمراء. وتدخلت الدول الكبرى فوضعت حدا لتلك المجزرة، وسنت للكوكتيل الطائفي العجيب نظاما عرف ببروتوكول لبنان.
ولما كانت المالية هي العرق الحساس في الدولة، وكانت دويلة لبنان التي خلقها نظامهم خليطا عجيبا، فقد جعلت لها ميزانية لا تزيد ولا تنقص، كانت الضرائب في جميع أطوار الحكومة اللبنانية التي عرفت باسم المتصرفية ذات رقم واحد لا يتجاوزه، على الأهالي فيه الغرم وليس لهم منه غنم؛ لأنه موزع على طوائفه.
إن البند الخامس عشر من نظام جبل لبنان جزم بأن يكون ما تتكلفه أهاليه لإدارة حكومته هو 3500 كيس، ويجوز إبلاغه إلى السبعة آلاف عندما يفيض الخير، ولما تولى أول متصرف - داود باشا - أصدر أوامره بدون انتظار الفيضان بتحصيل 7000 سبعة آلاف كيس، فامتعض الأهالي واعترضوا واحتجوا، وزعموا عليهم يوسف كرم، فاعترض هذا لدى داود باشا، فراح الباشا يداوره ويمنيه بالوظائف العالية.
واستدعاه إلى دير القمر وعينه قائمقاما على جزين، ولكنه لم يلن ولم يقنع بل رفض كل وظيفة، وترك دير القمر مغاضبا مصرا على الشكوى للباب العالي والدول الكبرى السبع ضامنة نظام لبنان وحامية حقوقه.
ولما رأى الباشا داود هذا الإصرار طلب من المطران بطرس البستاني أن يقنع يوسف كرم، فحاول ولكنه لم ينجح، فهرع داود إلى قنصل فرنسا المسيو دي سيزار طالبا منه أن يتدخل مع البطريرك الماروني ويحل هذه المعضلة، وبعد توسط القنصل والبطريرك عينوا مكان الاجتماع في دير اللويزة.
وفي أول مقابلة افتتح داود باشا الحديث بقوله: إن الشقي يوسف كرم لم يقبل بتولي حكومة جزين، بل يريد أن يكون حاكما على المتصرفية بكاملها ...
فقاطعه البطريرك، وكان يومئذ بولس مسعد، قائلا: إن من يسترحم رفع التكاليف المتجاوزة حدود النظام المسنون لا يدعى شقيا بل يسمى محاميا غيورا. وأما عدم قبوله حكم جزين، فلم يكن إلا برهانا على وطنيته المخلصة، التي حملته على تضحية مصلحته الشخصية في سبيل النظام والوطن. ثم - يا دولة المتصرف - نحن لم نتفق على المقابلة إلا لتكون الجلسة حبية لخير البلاد المنكوبة بأهلها وما يملكون، وليس من داع للسخط والتقريع؛ لأننا لسنا بموقف الاستهزاء والطعن، ولا بموقف كشف عيوب، بل من واجباتنا أن ننظر بطلب كرم، وهل هو منطبق على الحقيقة أم لا؟
فتكدر داود وغضب معلنا مناوأة كرم والبطريرك والشعب الماروني الشمالي. ثم نزع من رجال الدين حق انتخاب وكلاء الطوائف، زاعما للدولة في شكواه أن مصلحة الوطن اللبناني تستدعي عدم مداخلة الرؤساء الروحيين فأجيب طلبه.
Shafi da ba'a sani ba