كانت الروايات التي يقدمها مسرح علي الكسار مزيجا من الاقتباس غير المتقن والتأليف الركيك ومحاولات ساذجة لإحياء تراث ألف ليلة وليلة ومعالجة بعض قصصه. ولكن النص على أية حال لم يكن مهما أبدا في روايات الكسار؛ إذ كان هو كفرفور أهم ما في رواياته، وكان الكسار في مسرحه هذا يزاول الفرفرورية نقلا عن تراثها الطويل الخالد في وجدان الشعب ولياليه وحواريه. وكثيرون ممن شاهدوا روايات الكسار، خاصة في فترة ظهوره الأولى، لا بد ما زالوا يذكرون كيف كان يوقف أحيانا أحداث مسرحيته ليلقي بنكتة أو ليدخل «قافية» مع أحد المتفرجين، وكيف ينتهز فرصة كلمة تفلت من لسان متفرج طويل اللسان لينسى الكسار الرواية كلية وينهال بكلماته اللاذعة على المتفرج سيئ الحظ، بل كان أحيانا يضطر، حين لا يتطوع أحد المتفرجين ببدء مشاكسته إلى الاتفاق مع بعض أصدقائه أو معارفه للقيام بأدوار «المتفرجين» هؤلاء.
الفرق بين الفرفورية والأراجوزية
في الناحية المقابلة لفرفور، أو على وجه أدق، على السكة الفنية التالية المؤدية إلى ملامح الكوميديا المصرية نجد «الأراجوز». وإذا كان فرفور مزيجا من السخرية والفلسفة والشيطنة، وسوق «العبط على الهبالة» مقرونة بالذكاء والقدرة على إضحاك الآخرين والضحك عليهم في آن واحد، فالأراجوز هو تطوير ال
Staire
الكائن في فرفور، تطوير يدفع به إلى أن يصبح الناقد الحاد اللاذع ولا شيء سواه.
والأراجوز قطعا لم تخترعه أو تبتكره العقلية المصرية، ومن المحتمل جدا أن يكون قد انتقل لمصر أثناء فترة التفاعل الكبرى بين أرجاء الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الذهبي.
ولكن الحاسة الفولكلورية المصرية استطاعت أن تجد في هذا الفن ضالة منشودة وتمصره تمصيرا تكاد تحس معه أنه من هنا نشأ وإلى بقية البلاد انتشر، و«تشعبه» حتى لنحس به نابعا من مكنون الشعب وأعماقه معبرا عن أدق خلجاته ومواطن ألمه الدفين، تلك التي لا يعرفها غير الشعب ذاته. وفي الأراجوز أيضا يقوم نفس الشخص بتأليف المشهد وإدارة حواره وتمثيله وتحريك النماذج، وفن الأراجوز لا يعتمد على الروايات كما يحدث في السامر، إنه فقط يقدم اسكتشات مسرحية تؤلف كلها بحيث تعطي الأراجوز أكبر قدر من الفرصة لينال فيها التناقض الاجتماعي أو الإنساني بعصاته، فالأراجوز لا يستعمل كفرفور لسانه، إنه في مواطن اللسان يستعمل العصا، وكأنما ليقنعك أن هناك موقفا ومشاكل في الحياة لا تحلها قوة اللسان أو القوة العضلية، وإنما لا بد لحسمها وردعها من استعمال قوة الجماد، القوة الغاشمة.
وفرق كبير بين عصاة فرفور التي تصدر الصوت ولا تحدث ألما وبين عصاة الأراجوز التي كلما غورت في الرءوس وطحنتها تعالت ضحكات الناس وضجات استحسانهم؛ ففرفور مثال للفنان الناعم اللاذع في خبث، المؤلم بغير جروح، الجارح بلا دماء، هو فقط بكلامه، بلسانه، بوسيلته الكبرى لإيصال الحقيقة يريد أن يحرك الضمير الجماعي الساخر لدى الناس، بينما الأراجوز أكثر مباشرة وحدة وسرعة، يريد إحداث الأثر، عيني عينك، وعلى مشهد ومرأى الحاضرين، بل يريد هذه الطريقة المباشرة الواضحة أن تنتقل إلى صوته، فصوت الأراجوز لم يختر هكذا عبثا، ليس أبدا لاختيار نوع مشوه من الأصوات أو للسخرية عن طريق النغمة، ولكن الهدف إيجاد نوع متميز من الصوت، ماركة مسجلة تغنيك عن التساؤل وتبدو لك من مجرد سماعها وكأنها الصدى الساخر لصوت البشر، مثلك حين تريد إغاظة شخص فتقلد صوته بطريقة مضحكة، نوع من الصوت يحمل السخرية منه فيه، مقلقا للأعصاب رفيعا حادا وكأنما هو مسنون أو مسقي بالزيت كالكرابيج ليلدغ ويجرح. وهو أخنق قليلا أيضا، ربما لتدل الخناقة فيه على خناقة الحكمة، وتريد أنه لا يقوم بدوره المؤذي حبا في الأذى أو الجرح أو الإحراج، لكن الحكمة غير خافية، حكمة واضحة وضوح الشمس، وضوح العداء الذي كان يكنه رجل الشارع في مصر لرجل البوليس، أو للحماة أو للزوجة القبيحة، وليس من قبيل الصدفة أن هذه كلها بعض النماذج لضحايا عصاة الأراجوز، النماذج التي يختارها ليصب عليها سخريته ونقمته. ولم يكن صدفة أيضا أن كان الأراجوز هو الأب الشرعي لفن المونولوج في بلادنا، فقد جاء المونولوج بعد عصور التحضر على الطريقة الأوروبية ليعبر بالضبط عما كان يعبر عنه الأراجوز، إنما بلغة أكثر «أدبا» وبأسلوب يحل فيه النصح المباشر مكان اللدغ المباشر وتحل فيه الموعظة الحسنة محل العلقة.
وعلى الناحية المقابلة الأخرى للأراجوز، نجد فنا آخر هو فن خيال الظل، وهنا نجد أن الفنان المصري الشعبي قد نحا بهذا الفن وجهة أخرى غير الكوميديا والسخرية، فن خيال الظل هو فن «الفانتازيا» الشعبية، رواية أو حدوتة تقوم على افتراض فانتازيا مثل أن يبلع الحوت إنسانا ويظل حيا داخله أو تظهر للصياد عروس البحر ويعشقها، وغالبا ما تنتهي هذه الفانتازيا بمأساة. هنا يطلق الفنان الشعبي لخياله العنان متناولا مادة الحدوتة الشعبية محيلا إياها إلى دراما ذات فصول تساعد طريقة العرض على تجسيدها وعلى إكسابها - إلى حد ما - شكل الواقع. وباستطاعتنا أن نقول من هذه الزاوية إنه إذا كان الأراجوز يعتمد على التناول المباشر للحياة، والفرفورية وروايات السامر تعتمد على التناول الفني للحياة الواقعة، فخيال الظل يعتمد على التناول الأسطوري لتلك الحياة. والأسطورة في أدبنا الشعبي مرتبطة، ولا ندري لم، ارتباطا وثيقا بالفاجعة
Tragedy ، ولأننا فيما سبق قد حاولنا أن نلخص مفهومنا المصري للشخصية الكوميدية في فرفور والأراجوز، فأعتقد أنه قد آن الأوان لنتناول مفهومنا للشخصية التراجيدية والتراجيدية نفسها.
Shafi da ba'a sani ba