الاستمرار في الكتابة يحتاج لتجديد طريقتك في التعامل معها، يحتاج لألعاب جديدة؛ لتحديث مفهومك للكتابة، لإيجاد دافع ما للاستمرار. أتحدث هنا ببساطة عن جعل الكتابة ممتعة لك؛ كي لا تتحول إلى مجرد واجب ثقيل، أو لمحة إلهام طارئة تزورك من فترة لأخرى. منذ فترة مثلا كنت أحمل بعض الخطوط من الإنترنت، وهنا خطرت لي فكرة: لن أجرب هذه الخطوط بكلام بلا معنى، بدأت أحملها خطا خطا، وبعد تركيب كل خط أجربه بكتابة فقرة دون تفكير مسبق، فقرة بسيطة دون تكلف، وكانت النتيجة ثرية للغاية، ونتج عنها عدد من النصوص الجيدة. في أوقات سابقة كتبت من وحي: لوحات، صور فوتوغرافية، أفلام. أستفيد أيضا من الأحلام كمواد خام تحمل داخلها طاقة وجنونا قد لا تدركه ذواتنا الواعية في أوقات كثيرة.
اكتب، المهم ليس المنتج النهائي، المهم هو أن تكتب أفكارك أولا بأول، وأن تتعود على هذا. كثيرا ما مرت بداخلي أفكار ما، رأيتها مهمة ولم أسجلها، ثم لم أتمكن من ذلك بعدها. أحيانا تكون الأفكار والجمل سريعة التطاير؛ لهذا انتبه، فالأفكار السريعة التي تقابلها حين تقرأ كتابا، أو تفاجئك دون سبب وأنت تمشي، هي أفكار تعبر عنك، أفكار تغيرك، قد تكون سببا في تغيير طريقتك في التعامل مع أمور وأشياء بسيطة، وقد يؤدي هذا إلى سلسلة من التفاعلات الجيدة والمشوقة؛ لهذا هي مهمة، لأنها جزء من نموك كإنسان وككاتب، ولأنك قد لا تمر بنفس الحالة أو الفكرة مرة أخرى بنفس الشكل، سجلها.
5
في أي عمر تزدهر الموهبة؟ الإجابة ليست موحدة على هذا السؤال. «بيتهوفن» مثلا ظهرت بواكير موهبته قبل أن يكمل سنواته العشر. «رامبو» الشاعر الكبير الذي أثر في الشعر من بعده بشكل مدهش، بدأ رحلته في الكتابة وأنهاها قبل أن يكمل العشرين. «الماركيز دو ساد» في المقابل كتب روايته الأولى حين كان في عامه الحادي والخمسين. «ساراماجو» كتب رواية وحيدة في مقتبل حياته، ثم توقف قرابة العشرين عاما ليعود بعدها بديوان شعري، لكن روائع رواياته التي كانت سببا في حصوله على جائزة نوبل للأدب كتبت بعد الخمسين.
باختصار: كما توجد أمثلة معروفة لمواهب تزدهر بشكل مبكر بدرجة قد تصيبنا بالإحباط أحيانا، هناك نماذج أخرى في الفن، والأدب، والمجالات الإبداعية المختلفة تنضج وتتفتح متأخرا لتقدم أفضل إنتاجها في منتصف العمر، أو حتى في خريفه.
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
1
يقدم «دافنشي» في كتابه «نظرية التصوير» نصائح مهمة وثاقبة للفنانين، يستلهمها من خبرته العملية الطويلة، ومن موهبته الكبيرة. استوقفتني منها نصيحة وصفها بأنها «نصيحة ذات نفع كبير للفنان؛ إذ تساعد على تفتيح ملكاته، وإطلاعه على عديد من الابتكارات، رغم أنها تبدو قليلة القيمة، بل ومثيرة للسخرية.» ونصيحته كما ترجمها «عادل السيوي» ضمن كتاب دافنشي المسمى ب «نظرية التصوير» هي أن «تتأمل - أيها المصور - الجدران الملطخة، والأحجار المختلطة، فإذا كنت تبحث عن تصور لموقع ما، يمكنك أن ترى فيها صورا وأشكالا لبلدان متنوعة، تزينها الجبال، وتجري فيها الأنهار، وسترى الأحجار، والأشجار، والسهول الواسعة، والتلال على اختلاف أشكالها، كما يمكنك أيضا أن ترى معارك مختلفة، وأفعالا سريعة تقوم بها مخلوقات غريبة الأشكال، وستشاهد العديد من الوجوه والملابس وأشياء أخرى كثيرة لا يمكن حصرها هنا. ويمكنك أن تختصر هذه الأشكال في بناء متكامل، وأشكال قيمة. ومن يتعامل مع تلك الجدران والأحجار، يشبه من ينصت إلى أصوات الأجراس، فيسمع في دقاتها كل اسم أو حرف أو كلمة يمكن أن يتخيلها.»
والنصيحة تشبه نصائح مماثلة قدمها السرياليون الذين أتوا بعد دافنشي بسنوات طويلة للفنانين والشعراء. حاول السرياليون - مستفيدين من «فرويد» ومتأثرين بمنهجيته - أن يعيدوا الاعتبار للاوعي الإنسان، الذي تم إقصاؤه من وجهة نظرهم لصالح الوعي. وكان هدفهم الذي أعلنوه هو محاولة تجاوز التناقضات بين الوعي واللاوعي، وبين الذات والعالم، ومن خلال هذا التجاوز كانوا يطمحون إلى الوصول إلى طريقة مختلفة وأكثر عمقا للنظر إلى الذات وإلى العالم. وقبل السرياليين بقرون أدرك «ليوناردو»، الذي كان كثير من نصائحه يؤكد على الجهد والعمل والنظر والتفكير، أهمية استعمال جوانب متنوعة من الذات في سبيل تطوير الفنان لنفسه، فجاءت هذه النصيحة في المقابل لتؤكد على العفوية، على النظر الهادئ إلى جدار ملطخ، وانتظار الأشكال حتى تظهر إلى الوجود.
2
Shafi da ba'a sani ba