عن المدونات
هل تعلمون ما العظيم في أمر الإنترنت؟ أنها تستطيع لدرجة ما أن تتعالى على بنى العالم الواقعي الصلبة. مثلا، في العالم الواقعي؛ في عالم الأدب، هناك علاقات، ومؤسسات، ومنتفعون، وأصدقاء، وشلل، هناك قوى تعطي أحيانا أفضليات غير مستحقة، أو تسبب ظلما غير مستحق. الإنترنت ليست منعزلة، الإنترنت متصلة بكل هذا ومتأثرة به أيضا، لكنها أيضا تحتوي على آليات تجاوزه والاستدارة حوله.
هل تريد كأديب أن تلتزم بقواعد لا تعلمها، وأن تستمر في التشارك في طقوس خفية لمجتمع ما كي يتم قبولك فردا معتبرا فيه، بحيث تستفيد من شبكة التغطية الخاصة بهذا المجتمع؟ المجاملات، والمجاملات المضادة، الكلام المنمق، الصداقات المصطنعة. ليس الأمر دائما على هذه الحالة، هناك استثناءات، لكن قد أكون محقا إن قلت إن الوضع الغالب - في العالم الواقعي - يشير إلى مناخ سيئ.
فكرة المدونة هي أنها باختصار موقع شخصي، موقع يسهل أن تقيمه دون خبره تقنية كبيرة، ستكون فور إنشائها قد أنشأت وسيلة نشرك الخاصة، مع مساعدة من محركات البحث، وبيئة الإنترنت الواعدة، كل ما يتبقى عليك أن يكون لديك فعلا ما تريد أن تقوله، وأن تتحلى بالصبر. هذه الفكرة البسيطة في رأيي التي يمكننا فيها الحديث عن المدونة كوسيط جديد، لا نعرف بالضبط أثره على الكتابة حتى الآن، تم التشويش عليها بحديث فخم ومزين عن التلقائية، والفضفضة، وكتابة المذكرات.
في مرحلة ما انتشر صخب تنظيري حول المدونات، احتوى الكثير من الكلام الفارغ، الذي كان مناسبا وقتها لعمل بعض التحقيقات الصحفية، حول المدونات ، وكيف أنها قدمت نوعا جديدا من الأدب، عن الفضفضة، عن التلقائية. وهو ما لم أقتنع به أبدا. اقتنعت في المقابل أن هذا الحديث ضار للغاية؛ لأنه يركز على الظاهرة من وجهة نظر خاطئة. الفضفضة والتلقائية كانت دائما موجودة، الفكرة هي أن يكون النشر متاحا بسهولة، وأن يتم السماح لعدد كبير من الأفراد بالانغماس في عملية الكتابة. دخول هؤلاء الأفراد صحي، فكأي مهنة؛ يمكنك رسم خريطة المنتسبين للكتابة على شكل هرم له قاعدة وقمة، وهو هرم لا يمكن أن يكون قائما دون كل حجر فيه، حتى لو بدا غير مهم. الخطأ الذي قصدته، هو أن النقد والصحافة والنشر وقتها قاموا بدور سلبي، بالتركيز على جوانب تصلح لصناعة موضة ما، لخلق فقاعة تصلح للحديث عنها في الندوات. الفكرة الأهم - من وجهة نظري - هي الوسيط، وظروفه المختلفة، التي تخلق مناخا أكبر من الحرية، وصعوبة أكبر في الانتقاء، مواد الإنترنت كثيرة للغاية، هناك الآلاف من المدونات والمواقع، لكن المستفيد إن امتلك حدا أدنى من قدرات البحث فسيكون قادرا على الوصول إلى المادة التي تناسبه.
لدي انطباع أن أغلب النقاد لدينا فعليا هم أبناء الواقعي، وغرباء عن الافتراضي، حتى من ألفوا دراسات عن المسألة، أسهموا في الحديث عنها كموضة أدبية؛ تبحث «الميديا» عن عناوين ساخنة تصلح لجذب الانتباه بشكل مؤقت، قبل إحالة الظاهرة كلها للتقاعد لاحقا. كل فترة يتم الاهتمام بظاهرة ما اهتماما زائفا، (هو اهتمام زائف لأنه لا ينظر حقيقة في موضوع البحث، بل يسقط عليه انطباعات مسبقة دون دراسة حقيقية)، يساهم هذا الاهتمام في زيادة كثافة الحديث عن الموضوع، لكنه يساهم في نفس الوقت في قتله؛ لأن النقد - إن كنت محقا - يمارس في هذه الحالة عملية تشويش على الحواس، عملية تخلق حالة من عدم الرؤية، وتحجب زوايا النظر الأهم.
بعد ذلك استمعنا أو رددنا بأنفسنا فكرة انتهاء عصر التدوين بنفس الحماسة. هل انتهى عصر التدوين؟ هل انتفت الحاجة لوسيط نشر سهل وواسع الانتشار؟ أليس مغريا أن تمتلك ككاتب وسيطك الخاص للنشر، الذي ينجح في بعض الأحيان في التفوق على بعض الجرائد بكل إمكاناتها؟ هل نحن حقا في غنى عن أي مواقع باستثناء الفيس بوك وتويتر؟ فكر على الأقل أنه في حالة المدونات يمكن لشخص يبحث بالصدفة على الإنترنت أن يصل لك، ويتابعك إن أعجبته المادة التي تقدمها، دون أن يكون قد عرفك أو عرف أي شخص تعرفه.
شخصيا أتابع عددا من المدونات المستمرة، والتي تقدم مواد غاية في الأهمية، أضعها في العمود الأيمن لمدونتي، بحيث يظهر الجديد في الأعلى. مدونات عن السينما، عن السياسة، أدبية، ترجمات ... حتى إنني أتابع بعض المدونات في موضوعات غريبة، لكنها مسلية. الشاهد أني قادر كقارئ على تجميع جريدتي/مجلتي الخاصة من مجموعة المدونات التي أختارها دون التقيد بلغة أو مكان.
واقع الإنترنت في العالم العربي بشكل عام، وبالتبعية واقع المدونات ما زال يفتقر إلى العديد من المواد في موضوعات مهمة. في الحقيقة أغلب الموضوعات المهمة ما زالت تفتقر إلى مراكز ثقل حقيقية. إن كنت تشك في هذا فأخبرني عن أهم المواقع التاريخية، أو الاقتصادية، أو الفلسفية أو حتى الأدبية على الإنترنت العربية. هذا الفقر نفسه يخلق فرصا كبيرة غير مستغلة، ومساحة خصبة يمكن العمل فيها.
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
Shafi da ba'a sani ba