فالشكل الدال يبقى مشحونا بالقدرة على إثارة انفعال إستطيقي في أيما شخص قادر على الشعور به. إن أفكار البشر لتموت عاجلا كالجراجس
12
وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليبدلون مؤسساتهم ويغيرون عاداتهم مثلما يغيرون ستراتهم، فما كان يعد نصرا فكريا في عصر يعد حماقة في عصر آخر، وحده الفن العظيم يبقى ثابتا لا يذهب بهاؤه؛ لأن المشاعر التي يوقظها مستقلة عن الزمان والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم، فماذا يهم بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تحركهم قد أبدعت في باريس أمس الأول أم في بابل منذ خمسين قرنا؟ إن أشكال الفن لا تنضب ولا تستنفد، بل تؤدي جميعا عن الطريق نفسه - طريق الانفعال الإستطيقي، إلى العالم نفسه - عالم الوجد الإستطيقي. (2) الإستطيقا وما بعد الانطباعية
Aesthetic and Post-Impressionism
أستطيع الآن، في ضوء نظريتي الإستطيقية، أن أقرأ تاريخ الفن قراءة أكثر وضوحا من ذي قبل، وأستطيع أيضا أن أتبين مكان الحركة المعاصرة في هذا التاريخ؛ وحيث إني سوف أسهب فيما بعد في الحديث عن الحركة المعاصرة فربما يكون من الحكمة أن أغتنم هذه اللحظة، والفرضية الإستطيقية حاضرة بعد في ذهني، وفي أذهان قرائي كما آمل، لدراسة الحركة في علاقتها بالفرضية، إنه لا يسع أي واحد من جيلي أن يضع كتابا عن الفن لا يعرض فيه لتلك الحركة التي يطلق عليها في هذا البلد «ما بعد الانطباعية»
، وإلا كان فعله محض تصنع، وحيث إني سوف أتناولها بإفاضة كبيرة، فأود ألا أفوت هذه الفرصة السانحة لكي أنظر في مدى انسجام هذه الحركة مع نظريتي في الإستطيقا، وستكون هذه النظرة مناسبة للإدلاء ببعض الأشياء عما تتسم به «ما بعد الانطباعية» وعما لا تتسم به، ومناسبة لطرح بعض النقاط التي سآخذها في موضع آخر بتفصيل أكبر، وسأجتزئ الآن بطرح هذه النقاط، وباقتراح حل على أقل تقدير.
ينتج البدائيون الفن لأنهم لا بد أن ينتجوه؛ فالبدائيون ليس لديهم دافع آخر غير رغبتهم المشبوبة في التعبير عن إحساسهم بالشكل، إنهم، عن زهد في خلق الإيهام أو عن عجز، يكرسون أنفسهم كليا لخلق الشكل، إلا أن الأمور قد تغيرت في الوقت الحاضر، وغدا الفنان مرتبطا براع ومرتبطا بجمهور، الأمر الذي عجل بنشوء حاجة إلى «المشابهة الأمينة الناطقة»، وفيما لا تزال الجماهير الغفيرة تصخب في طلب المشابهة، فقد بدأت أواق الصفوة تتكلف الإعجاب بالبراعة والصناعة، وها هو المآل أمام أعيننا، إننا لنشاهد الفن في أوروبا يسوخ رويدا رويدا من تصميم رافينا
Ravenna
13
المثير إلى فن البورتريه المضجر في هولندا، بينما الشطر الأكبر من النحت الرومانسكي والنورماندي يتحول إلى تلاعب قوطي بالحجر والزجاج، وقبل أن تنقضي ظهيرة النهضة كان الفن قد انطفأ تقريبا، ولم تعد الساحة تزخر إلا بكل متكلف من صانعي الإيهام وأساتذة الحرفة، كانت تلك هي اللحظة المواتية لانبعاث «ما بعد الانطباعية».
Shafi da ba'a sani ba