ولا أدل على السذاجة الساحرة لتلك الملاحم من أن نرى هوميروس مثلا لا يحاول أن يستقصي وصفا، أو يحلل نفسا بشرية أو موقفا إنسانيا، بل يقذف تلقائيا بصفة أو يلون صورا عابرة، ومع ذلك يوحي بأسمى خصائص الجمال وأقوى عناصر التأثير. فهو مثلا يتحدث عن هيلانة مثال الجمال الأعلى التي كانت السبب في نشوب الحرب بين طروادة وبلاد اليونان، كما يتحدث عن أندروماك زوجة هيكتور التي سبت الرجال بجمالها، ومع ذلك لا يصف جمال هيلانة إلا بصفة واحدة يلصقها باسمها، وتتكرر الصفة نفسها مع الاسم كلما جرى في شعره، وهذه الصفة هي «عمق الحزام» فاسم هيلانة لا يرد إلا مردفا بقوله «ذات الحزام العميق» وأندروماك لا يرد اسمها إلا مردفا بصفة لا تتغير وهي «ذات الذراع البيضاء» وأما ما دون ذلك من مواضع الفتنة والجمال عن هيلانة أو أندروماك فذلك ما لا يشير إليه هوميروس مكتفيا بتكرار اسميهما مردفا بكل منهما الصفة الخاصة به؛ بحيث يولد فينا هذا التكرار إحساسا عميقا بالجمال، ويطلق هذا الإحساس العنان للخيال لتصور ما شاء من مواضع الفتنة والجمال.
وأما عن فن هوميروس الخاطف في تصوير الحالات النفسية المعقدة بواسطة صور حية خاطفة دون تمهل عند التحليل النفسي أو الأخلاقي المعقد، فلسنا نجد له مثلا خيرا من موقف إنساني شعري رائع، صوره هوميروس في الأغنية السادسة من الإلياذة؛ حيث قص قصة وداع هيكتور بطل طروادة وزوجته الجميلة المحبوبة أندروماك ذات الذراع البيضاء قبل انطلاقه إلى المعركة التي لقي فيها حتفه، ولم تكن أندروماك تجهل خطورة تلك المعركة التي كان زوجها سيلقى فيها أخيل بطل اليونان «أخيل ذا القدم الخفيفة» وتشفق عليه من الموت الذي يتهدده، ومع ذلك لا تريد أن تنال من شجاعته ومن ثقته بنفسه بإظهار الجزع؛ فهي تتجلد، لكن الجلد يخونها عندما يتناول هيكتور من بين ذراعيها ابنهما الصغير لكي يقبله ثم يرده لأمه، في هذه اللحظة الحاسمة تظهر قدرة هوميروس الخارقة رغم بساطتها وانحصارها في صورة حسية خاطفة لقطتها ريشته، فجمعت فيها العواطف والانفعالات التي كانت تصطرع في نفس أندروماك في تلك اللحظة، وهذه الصورة هي قوله: «ورد إليها هيكتور الطفل فتلقته بابتسامة تبللها الدموع.»
وأما عن خصائص الصياغة الشعرية، فقد انفرد فيها أيضا هوميروس بوسائل تلقائية ساذجة هي مع ذلك غزيرة الشاعرية، ومن أبرز تلك الخصائص استخدامه لنوع من الصفات التي يسميها النقاد المحدثون بصفات «الماهية»
Epithètes de nature
وبيان ذلك أن الصفات في اللغات جميعها ليست كما نظن مجرد أدوات لتمييز شيء عن شيء آخر، مثلما نقول: رجل أبيض؛ لتمييزه عن الرجل الأسود أو الأصفر، إنما هناك نوع آخر من الصفات لا تستخدم للتمييز، بل تستخدم لإظهار الماهية؛ أي أنها صفات ملازمة لطبيعة الشيء الموصوف مثل قولنا مثلا «الله الخالد الباقي» فصفتا الخالد والباقي لا تستخدمان هنا لتمييز إله خالد باق عن إله غير خالد ولا باق، إنما تستخدمان لإظهار طبيعة أو ماهية الله. وقد أحس هوميروس بهذه الحقائق اللغوية فأكثر من استخدام صفات الماهية التي تكسب شعره قوة وجمالا ساذجا كقوله: «البحر المائي» وككل تلك الصفات التي يلحقها بأبطاله لإظهار بعض خصائصهم لا لتمييزهم عن غيرهم.
وها هو ذا وصف هوميروس لبدء المعركة، كما حكاه في الأغنية الرابعة من هذه الملحمة مأخوذا عن ترجمة الأستاذ أمين سلامة:
بدء المعركة «وكما يضرب البحر الثائر الشاطئ الصاخب موجة بعد موجة مسوقا بالريح الغربية، فترفع الأمواج رأسها على سطح اليم أولا كالصخرة العالية، ثم تتكسر بعد ذلك على الشاطئ مدوية بصوت كقصف الرعد ناثرة زبدها من الماء الملح ... هكذا تحركت فرق الدانيين في ذلك اليوم، صفا بعد صف، دون توقف، إلى القتال، وأصدر كل قائد أمره إلى رجاله، بينما تقدم الباقون في صمت، وما كان يخيل إليك أن لتلك الجموع المتحركة أي صوت، بل كانوا جميعا صامتين كأنهم يخافون قادتهم، وكانت الدروع المرصعة تتلألأ على جسم كل رجل، وهم يسيرون. أما الطرواديون فكما تقف النعاج في جماعات لا تحصى في ساحة أحد الأثرياء ليحلب لبنها الأبيض، وتثغو دون هوادة كلما سمعت أصوات حملانها. هكذا أيضا ارتفع صياح الطرواديين في جميع صفوف الجيش الفسيح؛ لأنهم لم يكونوا كلهم يتكلمون لغة واحدة، بل خليطا من اللغات، وقد جمعوا من بلاد كثيرة يدفعهم «أريس» كما كانت الربة «أثينا» المتألقة العينين تدفع الآخيين الأغارقة، وتدفعهم معها آلهة الهلع والشغب والشقاق، وكانت الأخيرة - التي لا تهدأ ثائرتها - هي شقيقة ورفيقة أريس قاتل البشر، وكانت تبدو قصيرة القامة في أول الأمر حتى إذا اعتدلت في وقفتها طاول رأسها السماء، ووطئت قدماها الأرض في وقت معا، وإنها لتشعل الآن روح البغضاء الشريرة وهي تطوف بين الجموع لتزيد في أنات الرجال.
فلما التقى الجيشان الآن، وأصبحا في مكان واحد، التحما معا بالتروس والرماح، وكان المحاربون جميعا يرتدون دروعا من البرونز، فاصطكت التروس المطعمة بعضها مع بعض، وارتفع رنينها الصاخب، وبعد ذلك سمع صوت الأنين وصيحات النصر في وقت واحد من القاتلين والمقتولين، وفاضت على الأرض الدماء، وكما يحدث عندما تتدفق سيول الشتاء هابطة من الجبال من ينابيعها العظيمة إلى مكان يلتقي فيه واديان، فيجتمع فيضها القوي ليصب في مضيق عميق، ويسمع الراعي صخبها من بعيد وسط الجبال؛ هكذا أيضا ارتفع الصياح والصخب من التحام أولئك وأولئك في القتال، وكان أنتيلوخوس أول من قتل محاربا طرواديا في كامل عدته الحربية، رجلا عظيما من مقاتلي الصفوف الأولى، هو «أنجيبولوس بن ثالوسيوس» وقد ضربه الأول على قرن خوذته المزينة بخصلة من شعر الخيل، فانطلق الرمح إلى داخل جبهته، ونفذت السن البرونزية داخل العظم؛ فخيم الظلام على عينيه ، وسقط في الصراع العنيف محطما كالجدار، وإذ ذاك أمسك «أليفينور» بالقتيل من قدميه - وكان هذا ابن «خالكودون» وقائد «الأيانتيس» ذوي النفوس العالية - وحاول جذبه من تحت السهام جاعلا همه أن يجرده من درعه بمنتهى السرعة، لكن لم تلبث محاولته هذه غير فترة وجيزة؛ إذ بينما كان يسحب الجثة أبصر به «أجينور» العظيم النفس، ولما كان جنبه بدون وقاية وهو منحن أهوى عليه هذا برمحه ذي الطرف البرونزي فقطع أوصال أطرافه، وفي الحال فاضت روحه، وانهال على جثته سيل مرير من الطرواديين والآخيين، وشرعوا كالذئاب يقفزون الواحد فوق الآخر، وراح الرجل منهم يدحرج الرجل على الأرض.»
وأما فن الأدب التمثيلي فقد كان يصاغ هو الآخر عند اليونان الأقدمين شعرا، سواء منه المآسي والملاهي، بل كان يجمع فيه من الشعر والغناء والموسيقى والرقص؛ حيث ترى أجزاء المسرحية الإغريقية القديمة تتكون من مشاهد حوارية، وأغنيات للجوقة مصحوبة بحركات من الرقص البدائي ونغمات موسيقية ساذجة، وتتعاقب هذه الأجزاء المختلفة؛ الواحدة بعد الأخرى حتى نهاية المسرحية. •••
وعندما بدأت حركة البعث الأوروبي في القرن الخامس عشر، وعاد الأوروبيون إلى الأدب الإغريقي القديم يحتذونه، بل يستمدون منه مواضيع مسرحياتهم؛ رأيناهم في أول الأمر يجمعون في المسرح بين الحوار وبين المقطوعات الغنائية، لكن هذا النوع من المسرحيات لم يدم طويلا؛ فلم تلبث الكلاسيكية أن تكونت، وفيها انفصل فن التمثيل القائم على الحوار عن الغناء، وإن ظلت المسرحيات الجدية والهزلية تنظم شعرا على نحو ما نلاحظ عند كورني وراسين وموليير في فرنسا مثلا.
Shafi da ba'a sani ba