ثالثا:
الحرب بوصفها وسيلة الدفاع عن المدن.
وهكذا، فهو يرى «أن تطوير أدوات الزرع والحصاد، يضمن أسباب العيش، وبفضل أسوار المدن تبقى الأرض مصونة، والتمرس في الحرب والقتال يحمي المدن من مخاطر الوقوع تحت الحصار.»
فهذه النقاط الثلاث ركائز مهمة في سياسات إصلاح الوطن الصيني القديم ومعالجة شئونه الداخلية على ما يقرر هذا السيد ويلياو تسي، ثم إنه يعد الحرب أهم هذه العناصر (وبالطبع، فالأكفاء والمؤهلون هم وحدهم الذين تنصلح على أيديهم شئون البلاد، وعلى رأسهم أمراء الدويلات باعتبارهم الذين يملكون سلطة تعيين النظريات المفيدة والصحيحة في هذا الشأن، ولطالما كان كبار العسكريين والقادة والفلاسفة رهن إشارة هؤلاء إذا ما لزم الأمر ... إلخ.)
هذا فيما يتصل بالخلفيات الفكرية والمذهبية التي تصنف انتماء أولئك النفر من الفلاسفة، لكن ماذا عن الاعتبار الأول الذي ظهروا به على مسرح التاريخ، أقصد بذلك طبيعة ما تخصصوا به في نظر الناس جميعا، بوصفهم رجال حرب، سواء على مستوى التنظير أو في الممارسة الفعلية لمهام أنيطت بهم كقادة عسكريين في ميادين المعارك.
ولنتناول أبرز أولئك القادة بشيء من الإيجاز، وبترتيب أهميتهم وشهرة آرائهم في مبحث التراث العسكري وثقل ما قاموا به من أدوار ساهمت في صياغة ملامح الفكر العسكري الصيني على مر التاريخ: (1) «سونزي»: وهو من مواطني دولة تشي القديمة، عاش في نهاية الفترة التاريخية التي تسمى ب «الربيع والخريف» (770-446ق.م.)، ويعد مؤسس العسكرية الصينية، وكان قد هاجر إلى دولة «لو» [تنطق كما في: «لوركا»]، والتقى بحاكمها ولقي منه التشجيع والتقدير لمواهبه العسكرية فعينه قائدا عاما للجيش، فأبلى بلاء حسنا في الحرب ضد دولة تشو، إذ تغلب على قوات تعدادها مائتا ألف مقاتل بجيش لا يزيد عدد أفراده على ثلاثين ألف جندي، ووصل به الأمر أن استطاع اقتحام عاصمة تشو، ويهدد الدولتين المتاخمتين «تشي»، «جين» فذاعت شهرته، ونعمت دولة لو بزمن من المجد والقوة. أما هو فقد ترك للتاريخ واحدا من أهم الكتب العسكرية - ليس فقط في تاريخ الصين بل أيضا في تاريخ الإنسانية كلها - وهو كتاب «فن الحرب» [مع ملاحظة أن الكتب التي تحمل مثل هذا العنوان، وهي كثيرة، تنسب الفن لصاحبه، فيقال: «فن الحرب عند سونزي»] وهو أشهر الكتب القديمة في موضوعه ويبلغ محتواه ثلاثة عشر فصلا، بالإضافة إلى عدة فصول أخرى تم اكتشافها أثناء أحد الحفائر الأثرية بإقليم شاندونغ (الصين الشعبية) عام 1972م.
كان سونزي هو القائل بأهمية استغلال المواقف الطارئة، وهو ما أحسن الاستفادة منه خليفته (وربما كان في الوقت نفسه، أحد أحفاده) سونبين الذي جاء بعده بنحو قرن كامل من الزمان، حيث أخذ على عاتقه تطبيق مقولة مفادها إنه «من اللازم جعل الموقف الواحد مفيدا لقواتنا، وضارا بالعدو»، كما يعزى إليه إرساء مبدأ «هزيمة العدو بالهجوم المباغت». صحيح أن سونزي كان يؤكد على أهمية الهجوم، لكن سونبين استطاع تطوير تلك النقطة في مقولته الشهيرة: «كن دائما المهاجم، ولاتكن الطرف المدافع أبدا.» وقد يمكن فهم الفارق في هذين الاتجاهين على خلفية التطور التاريخي الذي شهد أيام سونبين، أحوال مجتمع تصدرته قوى وشرائح اجتماعية وأجيال طامحة إلى النفوذ والسيطرة بدرجة فاقت ما كان سائدا زمن فيلسوف الحرب الأول سونزي، واستطرادا من هذه النقطة فقد كان سونبين يؤكد على أهمية حصار المدن، على عكس سونزي الذي رأى في مثل هذا التصرف تبديدا للجهد وتجاوزا للحنكة وأصول المهارة، والفارق هنا يرجع، بالطبع، إلى ما شهدته الفترة الوسطى - زمن الدول المتحاربة - من انتعاش أحوال وازدهار اقتصادي ضاعف من أهمية المدن، وبالتالي فقد تبدت ضرورة حصارها وقت الحرب، لا سيما أن التقدم في الوسائل الفنية بفضل درجة متطورة من الصناعة وطفرة في وسائل التسلح عالية الكفاءة، جعل الفرصة مواتية لاقتحام المدن الحصينة، في ذلك الزمان البعيد ... إلخ.
وينسب إلى سونزي الفضل، كذلك، في إرساء مبادئ أساسية في فنون القتال ألهمت الأجيال اللاحقة بإمكانات مبدعة للتطور، فهو حين قال بضرورة جذب انتباه قوات العدو بانطباعات زائفة، تمهيدا للقضاء عليها، كان يمنح تابعيه فرصة هائلة للإبداع، فهذا «أوتشي» - أحد أخلص التابعين - يطبق تلك المقولة بتطوير ملائم لظروف معركة «مالين» - أشهر معارك العصر القديم - فيوقع بأعدائه في شر هزيمة، كما استفاد سونبين من فكرة سونزي حول تجنب قوات العدو القوية، وقدم رؤية متطورة لها في مبدأ جديد يقوم على «العمل بكل وسيلة على تشتيت قوات العدو، في الوقت الذي يجري فيه الحفاظ على تماسك قواتنا بهدف مهاجمته.»
كان سونزي قد أشار إلى ضرورة الحصول على معلومات موثوق بها عن العدو، دون اللجوء إلى الكهانة والعرافة، وإنما عبر العالمين ببواطن الأمور، وهو اتجاه يعكس رؤى متحررة من جمود الكهنوت الفكري السائد، وقتئذ، ومن بعده جاء «أوتشي»، ليركز على أهمية إلمام القائد بشتى ألوان الفنون الحربية؛ للتعامل مع مختلف الظروف تفاديا للهزيمة، وهو نمط من التفكير يختلف تماما عن الأعراف المستقرة في زمانه، والتي كانت تعزو النصر أو الهزيمة إلى أقدار السماء التي لا يمكن تجنبها بأي حال. (2) «أوتشي»: (تقريبا 440-381ق.م.) من مواطني دولة «وي»، عاش في بداية عصر «الدول المتحاربة»، وكان قد هاجر إلى دولة «لو»، وتحول عن دراسة الفلسفة الكونفوشية إلى التخصص في فن الحرب، وتولى قيادة قوات دولة «لو»، واستطاع التغلب على جيش «تشي»، ثم عاد إلى «وي» ليبقى فيها مدة سبعة وعشرين عاما في منصب المحافظ، حيث أجرى العديد من الإصلاحات العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ ردعا لدولة تشين عن مد حدود أطماعها صوب «وي»، وإعلاء لمكانة البلد بين جارتيها القويتين «هان»، «جاو»، مما مكن ل «وي» أن تمد نفوذها وتفرض سيادتها فوق أراضيها المترامية، لكن - ولسوء حظ الرجل - فقد حاصرته الوشايات، ليلقى مصيره في المنفى بعيدا (في دولة «تشو») حيث عينه حاكمها في منصب رسمي رفيع، يشرف من خلاله على إصلاحات عامة بالبلاد، وفجأة، يتم اغتياله على يد أحد نبلائها، بعد أن وضع كتابه «فن الحرب عند أوتشي»، ملخصا آراءه وتجاربه في ستة فصول كاملة. (3) «سونبين»: من مواطني إحدى الدويلات الصينية القديمة التي كانت تسمى ب «تشي»، قيل إنه أحد أحفاد المفكر العسكري الأشهر «سونزي»، بيد أن الفارق بين الجد والحفيد - إذا كان هذا الزعم صحيحا - بلغ مائة سنة تقريبا، وقد درس سونبين في سن مبكرة كتاب «فن الحرب» وتردد على الفيلسوف المشهور [أحد أعلام السياسة الصينية القديمة] «كويكوتزي»، وتعلم على يديه وكان يحضر معه حلقات الدرس فتى صغير في مثل سنه، اسمه «بانشيوان»، وتصادف أن زميله هذا استطاع الحصول على وظيفة مرموقة بالجيش، في دولة «وي»، وذلك بفضل جهود حاكمها الملك «هوي»، الذي أبدى استعدادا لتأهيل ورعاية كل صاحب موهبة، تحت إشرافه الشخصي، وبرغم ما وصل إليه بانشيوان من مركز رفيع وما بلغه من منصب قيادي، فإنه ظل يحمل في طيات نفسه شحنات من الغيرة والكراهية المكبوتة ضد زميل دراسته القديم سونبين الذي أبدى، منذ وقت مبكر، نبوغا لا حدود له في فنون القتال، وخشي بانشيوان أن تتاح لزميله النابغة فرصة مزاحمته، لا سيما أن ملك البلاد لا يدخر وسعا في استقصاء أحوال النابهين، متعهدا بحسن رعايتهم وكفالة ترقيتهم، فسارع إلى استدعائه، بالخديعة، وأقنعه بضرورة القدوم إليه، سرا، دون أن تشعر به عيون الملك؛ لئلا يحولوا بينه وبين ما قد هيأه له من فرصة اللقاء بجلالته، عساه أن يقربه إليه أو أن يتخذه مستشارا له، فاغتبط لذلك صاحبه الذي لم يكذب خبرا، وأسرع يطوي المسافات إليه، فلما انتهى به المطاف عنده، فوجئ بحرس الملك يطوقونه، ويزجون به في غياهب السجن، وما كاد يفيق من ذهوله حتى فوجئ بأشنع آلات التعذيب تمزق أوصاله (... قيل في الحوادث إنهم قد نزعوا ركبتيه - حسب طريقة صينية قديمة في العقاب البدني - ووسموا وجهه بميسم يلاحقه أينما حل، بوصفه من «معتادي الإجرام»، تجنيا وافتراء على ماضيه ومستقبله معا) ثم لما أدرك أنه يمكن أن يلقى مصيرا أسوأ من هذا بكثير، تظاهر بالجنون، فتغافلت عنه العيون المترصدة، فانتهز الفرصة واتصل، سرا، بمن أتاحوا له الالتقاء خفية، برسول من دول تشي، كان يزور البلاد في تلك الأثناء، فتحادث وإياه تحت جنح الليل، وقام المبعوث بتهريبه إلى دويلة تشي، فلقي فيها منتهى الترحيب، واستقبله القائد العام هناك، والملقب ب «تيانجي» وأحسن استقباله وأكرم وفادته، واحتفى به للغاية، حتى كان يلازمه في رحلات الصيد بصحبة بعض الأمراء والنبلاء، وقيل إن سونبين - لفرط ذكائه - كان يقترح عليه ما يتفوق به على سائر رجال المعية في القنص، بل إن نصائحه العابرة أثناء حفلات القمار كانت خير مغنم لأسعد حظوظه، فلم يسع «تيانجي» إلا أن قدمه إلى جلالة الملك الذي تحادث معه مستفسرا عن الكثير من أمور الحرب، فحاز إعجاب جلالته، فتكرم عليه بتعيينه مستشارا في الشئون العسكرية، وفي الفترة من 354 إلى 353ق.م. شنت دويلة وي الحرب على دولة جاو التي طلبت المساعدة العاجلة من تشي، وأراد الملك أن ينصب سونبين قائدا عاما لجيش بلاده (دولة تشي) لكنه اعتذر بأدب، متذرعا بما أصاب وجهه من آثار التجريس على إثر ما تعرض له من الوسم المشين، فاختير تيانجي بدلا منه، على أن يبقى سونبين مستشارا له أثناء المعارك ، فذهب وعمل جهده، من وراء ستار، على متابعة سير المعارك من البدء إلى المنتهى، لكن لوامع شهرته الحقيقية تألقت إثر أحداث عام 340ق.م. عندما اتحدت كل من دولتي «جاو»، و«وي» لضرب دويلة «هان» التي طلبت مساعدة تشي، فأرسل ملكها جيشا تحت قيادة تيانجي لمهاجمة وي التي فزع قائد جيشها «بانشيوان» (زميل سونبين القديم، الحاقد عليه) وكان شديد الاحتقار والاستهانة بقوات تشي، فنصح سونبين لهذه الأخيرة بخطة ماكرة أوقعت بغريمه بانشيوان تحت الحصار، فاضطر إلى الانتحار، بعدما سقطت عاصمة بلاده، ومن ثم ذاعت شهرة سونبين حتى فاقت حد الأسطورة، وتواترت عنه الحكايات التي رددت صيته في المعارك؛ إذ وصفته بأنه الرجل ذو الخطط الماكرة («الذي أجبر خصمه العنيد على الانتحار» هكذا قالوا!) وجاء عنه في سجلات ما سمي ب «أرشيف دولة هان» [إحدى حوليات التاريخ القديم] ما مفاده: إن كتاب - فن الحرب - الذي ل «سونبين»، كان مشتملا على تسعة وثمانين فصلا، فقدت كلها إبان عهد أسرة «سوي» الملكية [القرن 6 إلى 7 الميلادي، وهو أيضا القرن الذي شهد - بالمناسبة - تألق العلاقات العربية الصينية، في العصر القديم] وضاعت الكثير من مواريث ذلك الفيلسوف، المحارب، السياسي القديم، ومضت مئات من السنين قبل أن تظهر نسخة مهلهلة من الكتاب أثناء إحدى الحفائر الأثرية في 1972م وكان قد مضى سونبين قبلها، بعد أن تحققت لدولة تشي القديمة أسباب القوة والازدهار على يديه. وما زال المؤرخون، حتى الآن، لا يهتدون إلى تدوين معروف لسيرة حياته، فلا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، ليس سوى ما تذكره السجلات التاريخية المتاحة من أن القائد تيانجي «اعتزل الحياة العامة، ولحق به سونبين، وقد دأب على العزلة آخر أيام حياته» لا أكثر ولا أقل.
الأغرب من ذلك كله هو أن اسمه الحقيقي مجهول، فالمعلوم من لقبه الأول «سون» أنه يمكن أن يكون سليل عائلة اشتهرت على مر التاريخ بإنجاب العسكريين، أما المقطع الثاني من التسمية «بين» [تنطق كما في قولك «موبينيل»] فهو ليس من الأسماء في شيء، بل هو لقب آخر معناه «الأعرج» كما هو مفهوم مما يمكن أن يكون قد ألصق به بسبب عاهته التي تمثلت في عرج دائم نتج عما تعرض له من تعذيب وحشي، ظل يعاني من جرائه تشوهات أصابت قدميه، طوال حياته، وعلى هذا يكون معنى اللقب حرفيا: «سون الأعرج»، أو بمعنى أدق: «حفيد آل سون الأعرج»، أو هكذا يمكن الزعم، فيما بلغنا من التقديرات التي لا تتعدى أشباه الحقائق!
Shafi da ba'a sani ba