وتدل الأمثلة السابقة دلالة واضحة على أن المدافع إذا كانت تمثل دورا عظيما في حياة الأمم فإن من الممكن أن يغدو دور الأوهام السياسية أكبر من ذلك أيضا، فتأثيرها الدائم من أكثر ما تحققه فلسفة التاريخ وقفا للنظر. •••
ويتجلى اصطراع الأوهام السياسية أيضا في النزاع بين الأممية والقومية، وفكرة الوطن التي تشتق منها.
تنم الأممية التي يحلم الطاغية الأحمر بنشرها في العالم بأسره على خطأ فاحش في علم النفس، فضلا عن الوهم السياسي نظرا إلى التباين العميق في مزاج مختلف الأمم النفسي.
وعلى العكس، تبدو القومية التي هي نتيجة ما للأموات من سلطان قوي على الأحياء، آخر عنصر قادر على حفظ حياة الأمة، فإذا ما قهرتها الأممية حكم على المجتمع الذي تكون القومية قد أصيبت في صميمه بمثل ذلك الحبوط بالزوال من فوره، ولم يحدث قط أن كان لحب الإنسانية في الأمة من القوة مثل ما يمنحه حب الوطن.
ولا ريب في أن الاشتراكيين الأمميين يقولون موكدين للعامل إن وطنه الحقيقي هو طبقته، وإن أفراد الطبقة نفسها إذا كانوا ذوي مصالح واحدة في مختلف البلدان فإن من الواجب أن يتحدوا فيما بينهم غير مبالين بالحدود التي تفصل بعضهم عن بعض، ومع ذلك يكفي أن يواجه بين ممثلي ذات الطبقة في مؤتمر، ولكن على أن يكون هؤلاء الممثلون من أمم مختلفة ليرى مقدار ما يفصل بينهم من تباين عرقي، ولسرعان ما يقضي تباين المشاعر والأفكار هذا على المنافع المشتركة، فلا يعتم أولئك أن يتباغضوا كثيرا عن عدم تفاهم.
وإذا كان قد أمكن مجتمعنا أن يدوم على الرغم من الفوضى الغارق فيها؛ فذلك لأن عوامل الماضي تمسك كيان المجتمع القديم على الدوام. •••
وتدل هذه النظرة الخاطفة في حياة الأمم على أن الأوهام ما انفكت تمثل دورا بالغ الأهمية في التطور الحديث كما في الماضي، وما فتئت هذه الملكة الحقيقية للتاريخ، والمسيطرة على الأفكار والعزائم تسود العالم.
وتقوم دراسة الماضي خاصة على تفسير الأوهام التي ساست الأمم، وعلى نتائج مصارعتها للضرورات التابعة لطبيعة الأمور لا لإرادة الرجال.
الفصل الثالث
اصطراع المبادئ الحديثة في المساواة وزيادة التفاوت في الذكاء
Shafi da ba'a sani ba