وإذا عدوت تلك البصائر عن الجمع وجدت من البصائر ما يمكن وصفه بالبصائر النفسية، فلم تكن هنالك ضرورة مثلا إلى أن يكون الإنسان ذا نظر ثاقب ليرى نمو شبح بونابارت وراء الاضطرابات الثورية، ولا ليحس أن وعيد الاشتراكيين في سنة 1848 أدى إلى ظهور دكتاتور جديد استقبل مثل منقذ.
وهذه التقديرات النفسية سهلة نسبيا، ومنها ما صغته بنفسي قبل الحرب عندما قلت مؤكدا في كتابي «روح السياسة»: إن حربنا القادمة مع ألمانية هي - خلافا لجميع ما ينادي به دعاة الإنسانية - «ستكون صراعا فاقد الرحمة، فتخرب به ولايات بأسرها، فلا يبقى قائما فيها شجر ولا حجر ولا بشر.» وفي كتاب آخر أبديت الأسباب التي استندت إليها في هذه النبوءة. •••
وفي بعض الأحيان يمكن أن تبصر الحوادث الخاصة قبل وقوعها إذا ما كانت نتيجة محتملة لحوادث سابقة، فلو كان لدى قتلة قيصر حس تاريخي أدق مما عندهم لأدركوا أن القيصرية لم تكن من صنع قيصر، بل نتيجة منازعات اجتماعية وحروب أهلية ومقاتل أمر بها سيلا وماريوس، وسلسلة من الاضطرابات كانت تحمل كل مواطن أن يرجو ضمان حياة هادئة له.
وإذ أعمت رجال السياسة أوهامهم السياسية فإنهم يبدون على العموم مجردين كثيرا من مزية البصر في الأمور، ولو كان ذلك حول أقرب الحوادث، وإذ لم يدرك المعتقد العالم إلا من خلال روح معتقده السياسي أو الديني المشوه فإنه يعيش ضمن دائرة خيالية ويظل غريبا عن الحقائق.
وأربعة من خمسة ملوك حكموا في فرنسة في غضون القرن التاسع عشر ذهبوا ضحية عدم التبصر الناشئ عن أغاليط نفسية.
ويتألف من معظم الحوادث العظيمة في غضون الحرب الأخيرة، كمعركة المارن، والتدخل الأمريكي، والخيانة الروسية، والانكسار الألماني، وزعامة الولايات المتحدة، سلسلة أمور لم تخطر ببال إنسان، فغير المنتظر في هذا الدور هو الذي سيطر على التاريخ.
الفصل الرابع
روح النقد في التاريخ
رأينا في الفصول السابقة مقدار الارتياب في تفسير الوقائع التاريخية القديم، حتى التي تعد أكثرها شهرة.
وكان يجب للحكم فيها في بدء الأمر أن تحذف العوامل القومية والدينية والسياسية التي تعين معظم الأحكام حذفا تاما، وما كتب في مختلف البلدان من مؤلفات حول الحوادث نفسها يشتمل - بفعل سلطان تلك العوامل - على تقديرات مختلفة أشد الاختلاف.
Shafi da ba'a sani ba