ويجب أن تنمو روح النقد في التاريخ قبل أن تقوم الأغاليط القديمة، ولا سيما تعيين ما يكون عاما في الأحوال الخاصة.
والأمر كما لاحظ فستل دوكولنج القائل: «ولكن روح النقد منذ 150 سنة كانت تقوم في الغالب على عادة الحكم في الأمور القديمة من حيث احتمال وقوعها، أي من حيث مطابقتها لما نراه ممكنا أو قريبا من الصدق، وإذا أدركت روح النقد على هذا الوجه لم تكن أمرا غير الرأي الشخصي أو العصري القائم مقام رأي الماضي الحقيقي، فحكم وفق الشعور ومنطق الأشياء اللذين لم يوضعا قط وفق المنطق المطلق، ولا وفق عادات الشعور العصري.»
ولا يوجد غير عدد قليل جدا من ذوي النفوس النفاذة بعض الشيء من يستطيع أن يفسر الوقائع، أي: أن يميز الأفكار تحت الكلمات والمشاعر تحت النصوص، وأن يفرق بين العوامل الحقيقية للحوادث التي يقصها كثير من المؤلفين من غير أن يدركوها، وقد جدد فستل دوكولنج الذي استشهدت به جميع تاريخ العصر الميروفنجي مع بعض الخلاصات القصيرة التي لم يبصر أسلافه شيئا منها على الإطلاق. •••
وبدأ المؤرخون المعاصرون يدركون ضعف قيمة الوثائق التي كتب التاريخ استنادا إليها.
أجل، ظلت سذاجتهم عظيمة، ولكن من غير أن تساوي سذاجة أسلافهم في القرون الوسطى حين كانوا يعدون من الحقائق جميع الأوهام التي يروونها، وقد كان عندهم من الاستعداد العجيب ما يستخرجون به من أي نص أبعد التفاسير من الحقيقة وما يبينون به أدعى المستحيلات إلى الدهش.
وقد كان حتى القرن السادس عشر يعلم كحقيقة لا جدال فيها كون الفرنسيين من نسل فرنكوس بن هكتور، الذي فر من حصار تروادة، وكون اسم عاصمة فرنسة من اسم باريس بن بريام، وكون الترواديين بنوا المدينة الفرنسية تروا، وأن محمدا كان كردينالا فغضب لعدم انتخابه بابا؛ فصار ملحدا وأقام دينا جديدا، وأن يهوذا كان قد قتل أباه ليتزوج أمه، إلخ.
ومن الواضح أننا أقل سذاجة في الوقت الحاضر، ولكن مع بقاء العلم التاريخي سلبيا على الخصوص، ويدرك هذا العلم تقريبا أن من المتعذر حدوث بعض الأمور كما كان يقص خبرها، وذلك من غير أن يحسن معرفة الوجه الذي وقعت به. •••
ومهما تكن درجة المؤرخ من اللقانة فإنه يصعب عليه أن يتخلص من العوامل الناشئة عن عقائده السياسية والدينية، ولا سيما المشاعر الصادرة عن البيئة التي يعيش فيها، فالمؤرخ يختار من الوقائع غالبا ما يلوح أنه يسوغ به أفكاره وأهواءه وعقائده حاذفا غيره.
قال سنيوبوس أيضا: «والواقع أنه يقوم بين النص والنفس الميالة التي تقرؤه صراع فظيع، وتأبى النفس إدراك ما يناقض رأيها، والنتيجة العادية لهذا الصراع أن تخضع النفس لصراحة النص، ولكن الذي يقع هو أن النص يذعن وينثني ويرضى بالرأي المبتسر الذي يساور النفس ...»
حتى إن الوقائع المودعة في الوثائق لو كانت صحيحة جدا لم يتألف منها غير مواد لبناء يجب أن يقام فيما بعد، وتكون الاستعلامات الكثيرة عن الحوادث التاريخية الحديثة نسبيا متناقضة، ومن المحتمل أن يكتشف فيها دائما تسويغا لرأي ما، ولا شيء في التاريخ أسهل من تأييد رأي مخالف لذلك، وهذا ما يكاد يتعذر في العلوم، حيث لا قيمة لقضية إلا عند تسويغها بالملاحظة أو التجربة.
Shafi da ba'a sani ba