ويسيطر على تاريخ الأمم ما بين اندفاعات الحياة العاطفية اللاشعورية ومؤثرات الحياة العقلية الشعورية من صراع، فمن الحياة العقلية تتفجر عجائب العلم التي تعين تقدم الحضارة، ومن الحياة الغريزية تولد الشهوات وجميع المنازعات التي تزعج حياة الأمم، وسيبقى الأمر، لا ريب، هكذا حتى اليوم الذي تتخلص الإنسانية فيه من الحياة اللاشاعرة الوراثية، فتبلغ من التطور الكافي ما يكون العقل معه مسيطرا، ولم تبلغ هذه المرحلة بعد؛ ولذلك يشتمل التاريخ على قليل من الحوادث التي أوحى بها العقل المحض، أجل إن الإنسان أقام مباني وعين سير النجوم، غير أن تأثير المنطق العقلي ظل ضعيفا دائما في الأعمال التي تتألف منها حياة الأمم.
وها نحن أولاء بعيدون جدا من المبدأ القائل إن الحياة اللاشاعرة وقف على الحيوانات، ويكفي أن ينعم النظر ليرى أنه يتألف منها أساس حياتنا الفردية والاجتماعية، فمن العادات اللاشعورية تشتق أخلاق حقيقية ، ويقوم ثبات الحضارة على عادات أصبحت لاشعورية.
وتمثل هذه العادات دورا عظيما في حياة المجتمعات، وهي توجد وحدة الفكر والعمل اللذين لا يمكن أن تدوم بغيرهما حضارة، فمتى خسرت أمة ما يوجه نشاطها من عادات ارتجت وفق المصادفة وسقطت في الفوضى، ولولا العادات اللاشعورية التي وجهت حياة البشرية ما كان لها تاريخ.
الفصل الرابع
تقلب الذاتيات الفردية والجماعية
يعد ثبات الذاتية من المبادئ النفسية التي توشك أن تزول.
وكانت تفترض هذه الذاتية وحيدة، فأخذت تبدو بالتدريج منوعة مركبة من عناصر يمنحها ثبات البيئة وحدة ظاهرة.
وكان يبدو مبدأ ثبات الذاتية القديم سائغا بإظهار كل فرد عددا من الترديدات التي تكرر في الحياة العامة من غير كبير تغيير. ومما لا ريب فيه أنه كان يلاحظ ما يطرأ على طبع الفرد عينه من تقلب، ولكن جهل طبيعة هذا التقلب، وما يصدر عنه هذا التقلب من عوامل حقيقية، كان يوجب وصفه بكلمة «الأهواء» الغامضة.
وكان الوهم حول الذاتية الثابتة يقوم أيضا على الوهم حول ثبات الجسم ظاهرا. والواقع أن الذاتية الفزيوية التي تصلح أن تكون إطارا للذاتية الخلقية تتحول بشيء من البطء لتوحي بطابع الثبات.
وفي الحقيقة أن الذاتية البدنية تتحول دائما، وينشأ ثباتها الوهمي عن نقص في وسائل ملاحظتنا فقط، فلا بد من انقضاء سنين على العين البشرية لتحقيق ما تدل عليه آلة دقيقة في بضع دقائق.
Shafi da ba'a sani ba