في هذا الكتاب
يتضمن التاريخ معرفة مختلف العلوم التي لم يكن غير جمع لها في الحقيقة، ولو قصر على بصر سطحي بالأمور المدونة في الكتب.
ويدل البحث، الذي هو أعمق من الذي رضي به الإنسان في ألوف سني الحضارة الست، على أن العالم بالغ التعقيد، ومما وفق له هذا البحث على الخصوص إيجاد بعض صوى
1
ساطعة في غابة الحوادث المظلمة.
وتعد معرفة تفسير العالم الصادرة عن المختبرات أمرا ضروريا لإدراك التاريخ.
ومباحث على النفس - أي: العلم الذي يفسر به تكوين الأعمال - هو ما يجب ذكره على الخصوص؛ ولذلك وجدنا من المفيد أن ننقل بعض مختارات من الكتب التي نشرناها حول فصول مختلفة من هذا العالم.
القوى الموجهة للعالم وإيضاح الحوادث «يلوح العالم، البسيط إلى الغاية في الزمن الذي كان الآلهة يسيطرون فيه على مجراه، أكثر تعقيدا مقدارا فمقدارا، وذلك كلما بحث العلم عن الأسباب، فقد أصبحت الحوادث البسيطة ظاهرا، كسقوط الحجر وكهربة قضيب من الصمغ، مسائل يتعذر على العالم حلها.» «ويعدل العلم الحديث عن اكتشاف عنصر ثابت في العالم، أي: صورة ثابتة في مجرى الحوادث، وكل شيء زال مناوبة، حتى إن المادة، التي هي آخر عنصر كان يعتقد إمكان الاعتماد عليه، خسرت أبديتها، وهكذا يعقب الثبات عدمه، فتقوم تقلبات التوازن الدائمة مقام السكون.» «ويتقهقر السبب الأول للأشياء في لانهاية منيعة، والصلات بين الحوادث وحدها هي ما يمكن أن يعرف.» «والعلم إذ يترك الإيضاحات الكثيرة الاختصار يقيم الآن تجمع ما لا حد له من العلل الدقيقة إلى الغاية مقام النواميس العامة الكبرى، والعلم يعلم أن العالم الفزيوي والعالم البيولوجي والعالم الاجتماعي من عمل ذاتيات بالغة الصغر تكون غير مؤثرة إذا بقيت منفردة، ولكنها تكون قوية جدا عندما تقترن. ومن الدقائق التي لا حد لصغرها ظهرت القارات ونبتت الغلات وقامت الحياة، ويبقى مختلف الذاتيات كالذرات الفزيوية والخليات الحية والوحدات البشرية، إلخ، لا عمل له إذا لم تأت قوى موجهة لتوجب أعماله وتقني أفعاله.» «ولا يهم كثيرا كون العناصر المقصودة من الحقل الفزيوي أو الحقل البيولوجي أو الحقل الاجتماعي، فلا بد من وجود عوامل مدبرة لتوجيهها دائما، وتتحول العناصر الفردية إلى غبار لا طائل فيه عندما تعود غير متأثرة بهذه العوامل.» «وفي خليات الجسم العضوي ينطوي التوجيه المدبر على الحياة، وينطوي سكونه على الموت، وعين هذه السنة أمر وحدات الموجود الاجتماعي.» «وفي الدائرة النفسية نرى تعاقب القوى الموجهة، كالمعتقدات والمثل الأعلى، إلخ، وذلك من غير أن تزول مطلقا.» «أجل، يمكن أن تغير اسمها، ولكن مع بقائها دائما ولا بد في التوجيه بالإيمان، من السيف أو العلم أو الفكر في جميع وجوه التاريخ، فحرمان المجتمع قوى موجهة أو إخضاعه لقوى تابعة للهوى مترجحة دائما، يعني الحكم عليه بالهلاك» (روح السياسة).
غير المنتظر في التاريخ «يسيطر غير المنتظر على التاريخ.
أجل، كان يمكن الرجل البصير أن ينبئ قبل الحرب بانحلال النمسة، وكذلك بانحلال روسية وتركية على ما يحتمل، ولكن كيف كان يمكنه أن يتصور مصيبة ألمانية الهائلة بغتة؟ كانت ألمانية قد بلغت أوج القدرة، وكان العالم يلوح مهددا بمعاناة سلطانها، ثم غلبت في كل مكان فانهارت في بضعة أسابيع بين الخزي والحزن.» «ويؤدي توالي الانقلابات هذا إلى غد هائل لا ريب، ولكن ما يكون هذا الغد؟ وفي النمسة ما يصبح مثلا هذا النقع من الأمم الصغيرة المتخاصمة التي خرجت من الدولة العظمى بعد أن جمعت بينها في قرون من الجهود كثيرة؟» «وإذا كانت دروس الماضي صالحة لتكون دليلا أمكن أن يقال إن أوربة مهددة بحروب تذكرنا بما اشتعل منذ القرون الوسطى، وذلك ليؤلف من الدول الصغيرة ما انحل اليوم من الإمبراطوريات العظيمة.» «بيد أن العالم بلغ من التطور ما لا تكفي معه سنن ماض بسيط جدا لإيضاح مستقبل كثير التعقيد، وقد ظهر بعض المبادئ الجديدة، وباسم هذه المبادئ ستعاني النظم والمعتقدات تحولات غير منتظرة لا ريب» (روح الأزمنة الحديثة).
Shafi da ba'a sani ba