رابعا:
أن علاقات أرسطبس الشخصية بأهل زمانه، مما لا يجعل للصداقة بينه وبين أرسطوطاليس من محل، فإنه كان محررا من كثير من قيود العرف التي يقدسها أرسطوطاليس، وكان إباحيا بعض الشيء كما يستدل على هذا من علاقته ب«لايس» القورنثية، إحدى خليعات أثينا بل ومن خليعات التاريخ اللاتي يذكرهن أصحاب التراجم والموسوعات الكبرى؛ لبعد صيتها في الخلاعة، حتى لقد ضرب المثل بها في التبذل، فقد ثبت أن أرسطبس كان من عشاقها ومخالطيها المعروفين.
فإذا أضفنا إلى هذه التقديرات أن أرسطبس كان يعلم بأجر، فعده أرسطوطاليس من السفسطائيين؛ عرفنا على الإجمال السر في أن يعنى أرسطوطاليس في كتابه بالمذهب دون صاحبه.
وهذا يدل أوضح دلالة على أن أرسطو كان يقدر أرسطبس كفيلسوف، فناقش في مذهبه وترك اسمه، وأظن أن مجمل هذه التقديرات يكفي لتعليل السبب في أن يهمل المعلم الأول ذكر القوريني العظيم.
أما الوجوه التي ناقش فيها أرسطوطاليس مذهب أرسطبس، فنمضي في ذكرها متخذين من المصادر التي بين يدينا - على قلتها - عمدة في البحث.
وقبل أن نمضي في هذا أرى أن أنبه إلى حقيقة تؤيدها كثير من المرجحات ولا يجب أن تغيب عن ذهن الباحث، وهذه الحقيقة هي أن أرسطوطاليس ناقش في أبسط صورة لابست مذهب أرسطبس، والواقع أنه نقد الناحية التي قال فيها أرسطبس بأن اللذة هي الخير الأسمى، وأن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، ولا ريبة في أن هذه الناحية هي التي نقدها من قبل سقراط، وهي بعينها الناحية التي نقدها من بعد أفلاطون، وهي بعد هذا كله صورة المذهب البدائية .
على أن هنالك ظاهرة أخرى يجب أن نعيها، فإن نقد سقراط كان عاما مجملا، ونقد أفلاطون كان نتفا، فظهر مفرقا بين كتب عديدة، كما تناول نواحي مختلفة من مذهب أرسطبس، ولذا تناوبت عليه حالات من القوة والضعف، والبيان والغموض، ونهوض الحجة مرة وسقوطها أخرى، أما نقد أرسطوطاليس فكان أقرب ما يكون إلى النقود التي استولت عليها الروح الأكاديمية العميقة، على الرغم من أنه تناول النواحي الأولية البدائية من المذهب، ولا شك مطلقا في أن هذا التدرج كان يتبع تدرج المذهب نحو النضوج، كما أني لا أشتبه مطلقا في أن المذهب إنما نضج بعد عصر أرسطوطاليس، وبعد موت أرسطبس.
لهذا أعتقد أن نقد المذاهب الفلسفية والعلمية إنما يكون أقرب إلى الكمال إذا وجه إليهما بعد أن تلابسها أنضج الصور، وأن المذاهب - فلسفية كانت أم علمية أم أدبية - يجب أن يعاد النظر فيها بين حين وحين، شأنها في ذلك شأن التاريخ.
ذلك بأن تطور الاتجاهات العقلية، ونشوء المبتكرات واتساع أفق المعرفة، كل هذه وسائل تجعلنا أقدر على فهم النواحي الغامضة من المذاهب القديمة، زد إلى هذا أن رواد الفكر يحصرون عن تبين الحقائق تماما، وهم لا يرون منها إلا ما يرى الخائف الوجل في مفازة موحشة، فقد تتراءى له خيالات وأشباح تتصارع في نهاية الأفق، ولك أن تصور لنفسك بعد هذا إلى أي حد يصل جهد الرائد ليستخلص الحقائق من الخيالات، ويتبين الأجسام المادية من الأشباح، والنقد الذي يوجه إلى المذاهب التي يضعها الرواد، لا يخلص من الشوائب التي لن تسلم منها المذاهب المنقودة ذاتها عند أول وضعها، وإذن يكون ما في نقد المذاهب الناشئة من ضعف واضطراب؛ راجعا - في أكثر الأمر - إلى ضعف عناصر المذاهب المنقودة ذاتها.
أما إذا أردنا أن نستخلص حقيقة العلاقة بين مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي، وبين فلسفة أرسطبس فواجب علينا أن نمضي في ذكر الوجوه التي تثبت العلاقة والآصرة بينهما في أخلاقيات أرسطوطاليس، وأن ننقل عن المعلم الأول أخص ما يتصل من فلسفته الأخلاقية بمذهب الفيلسوف القوريني، ونستطرد في الموازنة بينهما كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولنبدأ بمعقول السعادة عند أرسطوطاليس، نقلا عن كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس»، ترجمة أستاذنا الكبير أحمد لطفي السيد باشا، عن الباب الرابع جزء أول، ص189-195.
Shafi da ba'a sani ba