عرفنا من قبل أنه لم يكن لدى القورينيين من حاجة لأن يثبتوا فوارق أساسية من حيث القيمة بين اللذائد، ولا شك في أن كل ما وصل إلينا عنهم إنما يدل على أنهم كانوا على يقين من هذا الأمر، فقد نقل عنهم ديوجينيس لايرتيوس (ج2، ص87) قولهم بأن لذة ما لا ترجح لذة أخرى، وكذلك المنابع التي تزودنا باللذة، فإن أحدها - مهما كان فيه من التبذل والإسفاف - لا يفضل غيره أو يفترق عنه من حيث القيمة.
نذكر هذا لنثبت أن الفرق بين القورينيين وبين أفلاطون من ناحية، وبين أرسطوطاليس من ناحية أخرى، ينحصر في أن الأخيرين قد دافعا عن فكرة الأمثال المجردة للقيم وللحقيقة، وهي أمثال تسمو فوق الفكرة التي تجول في رءوس العامة من الناس.
1
فإن الحوار المشهور في كتاب «فليبوس» تأليف أفلاطون، والذي قصد به إمكان وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين هذه وبين مبدأ الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، إنما قصد به على الأرجح الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.
2
ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن ذلك الشك المرتجل الذي ظهر فيما كتب أرسطوطاليس وأفلاطون، هو الذي حمل القورينيين على أن ينفروا من البحث العلمي في الطبيعة، ومن مجرد التأمل الذي لا فائدة منه.
3
أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع - على الأرجح - إلى أن ابن قورينة بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال: إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته. وهذه الصورة البسيطة غير المهذبة من المذهب الهيدوني هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».
غير أننا نمضي في شرح آراء أفلاطون والتعليق عليها من حيث علاقتها بمبادئ القورينيين، بحسب الترتيب الذي سقنا فيه هذا البحث فنبدأ بكتاب «ثياطيطوس» ونعقب عليه بكتاب «بروطاغوراس» ثم بكتاب «فليبوس»، ونختم بكتاب «غورغياس» ثم بالتعقيبات الضرورية على كل ما يعن لنا التعقيب عليه. •••
كان للمذهب القوريني الأثر البالغ في كل المذاهب التي ذاعت في بلاد اليونان القديمة منذ عهد سقراط.
Shafi da ba'a sani ba