وقد خصص لهم إقليما لاستعمارهم، ابتنوا فيه مدينة يونانية كاملة اسمها نقراطيس وألقوا برحالهم أيضا في بلاد مصرية مختلفة، مثل: ممفيس وعبيدوس، وفي الواحات الكبيرة، وهكذا انتشرت في مصر طوائف وأشتات من اليونانيين مختلفة الأصول والسلالات منهم الإغريق والأيونيون والكاريون، ويونان من آسيا الصغرى، ويونان من الجزر ومن «قورينة
Cyrene » بشمال أفريقية غربا.» «ومن أسباب هذا الذيوع والتكاثر قوة الخصب ورطوبة الثرى، ورخاء الحياة وسلاستها، ولم تكن أسباب هذه الرفاهة مقصورة على ليونة العيش وغزارة الموارد المادية وحدها، بل ترجع أيضا إلى خلق السكان الهادئ الوديع المشبع بالحضارة السامية، والذي صقله التمدين الراقي، حتى لقد قال المسيو ملهود: «إنها لحقيقة ذات بال أن العلم والحضارة اليونانيين، لم ينتعشا إلا بعد تلك الهجرة».» «وفي ذلك الوقت كانت الحضارة المصرية فتنة الناظرين، وعجب السائحين، ورغم الانحطاط والتدهور السياسي الذي استمر عدة قرون، والذي بدت أعراضه في كل ميدان من ميادين العمل - ولو أنه قد غولي في تقديره - فإن تسلم الأسرة السادسة والعشرين عرش مصر، كان بداءة عودة الحياة إلى الفن، ودليلا على أن العلم والأدب قد نهضا نهضة بعثت عهد الفراعنة السابقين الزاهر، من رموس الماضي.» «كانت التصورات الأخلاقية الراقية قد ملكت نفسية المجتمع، وكانت منبثة في مجموعة منظمة من القوانين المدنية والجنائية، قد بهر تنسيقها وحسن نظامها القدماء. والفصل الخامس بعد العشرين من «سفر الموتى» وهو الذي يشمل تزكية الروح، والمسمى بالاعتراف السلبي أمام محكمة أوزيريس يكشف لنا عن خلاصة الآداب المصرية، ويرينا سمو مشاعرهم الأخلاقية، ورفعتها وتساميها.» «ولأسباب معقولة قورن هذا الاعتراف السلبي بالوصايا العشر عند العبرانيين، ونجد من المؤلفين القدماء الذين وصلت إلينا كتبهم على مهابط السنين - وبخاصة هيرودوتس وديوذورس - برهانا على أن هذه الشريعة الأخلاقية، كانت مستمدة من القوانين والشرائع المصرية، أما ديوذورس فيحاول أن يحملنا على الاعتقاد بأن «صولون
Solon » قد استعار بعض قوانينه من المصريين، وهذا محتمل إلى حد كبير قياسا على تفوق مصر على جيرانها تفوقا كبيرا، وعلى التأثير الذي لا يدفع والذي لم تكن مصر لتضعف عن تسليطه على قوم في زهرة شبابهم، متلهفين إلى العلم ولهم مواهب سامية، ولم يكونوا بعد قد أطلقوا العنان لقوتهم الإبداعية، وكانت عبقريتهم الغريبة الباهرة، ستتفتح عنها الأكمام، بعد صولون بقرن واحد.» «وقبل ظهور اليونان في التاريخ الحقيقي كان المصريون هم الذين أوجدوا أكمل حضارة وأفتن وأزهر مدنية، وكان التعليم منتشرا في مصر انتشارا واسعا، وعدا طبقة الكهنة الذين كان لهم احتكار العلوم والآداب، كان هناك عدد عظيم من كتاب الدواوين ورجال الحكومة، يمثل العنصر المثقف من السكان. وكان لكل مدينة عظيمة مدرسة واحدة، أو عدة مدارس متصلة بالمعابد، ويتكون منها كليات دينية حقيقية، وتدل التقاليد على أن أعظم علماء اليونان وأفحل فلاسفتها كانوا يترددون على هذه المدن العظيمة. وكانت أكثر المدن روادا وقصادا سايس وبابسطس وتنيس وهليوبوليس وعيدوس وطيبة، وكانت كلية هليوبوليس الكهنوتية طائرة الصيت، وكان يؤمها اليونانيون ويعتبرون وفودهم عليها جزءا من برنامجهم التعليمي. وفي عهد الأسرة السادسة والعشرين - أي من وقت تولي إپزاماتيك الأول إلى وفاة أهمس واستيلاء الفرس على مصر؛ أي من سنة 650 إلى سنة 525 قبل الميلاد - كان يمكن لليونان أن يؤموا وادي النيل، ويعيشوا فيه في أحوال مواتية لا تقطعهم عن الدرس والمطالعة ومذاكرة المعارف، وفوق ذلك، فإنه لم يحدث تحت سيطرة الفرس ما يعوق السائحين والمؤرخين والسياسيين عن السفر والتنقل خلال الديار المصرية، يدرسون عاداتها وفنونها ومعتقداتها الدينية، ولقد يعطينا المؤرخ هيرودوتس مثلا من ذلك فيما كتب.» «لقد أظهرنا إمكان وجود العلاقات العقلية بين مصر واليونان، والآن سنختبر طبيعة هذه العلاقات، وليست المسألة مسألة إثبات وراثة فلاسفة اليونان المبكرين المباشرة للأفكار والتصورات المصرية، فهذا شيء عسير يصعب أن نحلم بتحقيقه في حالتنا العلمية الحاضرة. والأمر هنا يدور حول إثبات أن الفكر المصري ينبغي أن يكون قد أثر بعض التأثير في الفكر اليوناني، ومن ناحية أخرى نرى أنه من الضروري تجنب الخطأ المضاد لذلك، وهو إنكار أية علاقة لمملكة ما بالممالك الأخرى التي تجاورها، حتى بالممالك البعيدة عنها وبخاصة إذا كانت الأخيرة مباءة للأدب والفن والعلم.» «أخذ اليونان أفكارهم عن يوم الحساب بعض الشيء عن المصريين، ومن أجل ذلك كانوا - كالمصريين - يعتقدون بوجود روح مجنحة خالدة، وكانت الروح تمثل على الآثار المصرية وفي المقابر بصورة طائر ذي رأس بشري، ويلزم أن يكون اليونان قد أخذوا صورة الجنة من مملكة الموت، التي كان يحكم فيها أوزيريس.» «ولا مجال لنكران المشابهة والتقارب في الجرس بين كثير من الكلمات المصرية وبين عدد عديد من الكلمات اليونانية التي تدل على معنى واحد، وفضلا عن ذلك فإن القني والنيل - تلك التي تصور المصريون وجودهما في العالم الآخر، على مثال النيل الحقيقي وقنيه الأرضية - اتخذها اليونان نماذج لأنهر العالم السفلي ومجاريه وقنيه، ومن الصعب أن نشك في الأصل المصري لكلمة “Rhudamanthu”
فهي مأخوذة أصلا من الجملة المصرية “Ra-in-amenti”
وهو رع إله الشمس في “Amenti”
وهي الحياة المقبلة. وكلمة “Charon”
للملاح في العالم السفلي مأخوذة من الكلمة المصرية “Karon”
ومعناها زورق أونوتي، وقد أوحت فكرة محاسبة الموتى أمام محكمة أوزيريس إلى اليونان أفكارا مشابهة لها. والزخرف على ترس آخيل مستمد من التماثيل النصفية المصرية، وقد صبغت أساطير يونانية كثيرة بعناصر مجلوبة من مصر؛ مثل أسطورة هيرقل فإن الأصل المصري ظاهر فيها، ومثل أسطورة أطلس حامل الدنيا برمتها على منكبه، وهي فكرة تضرب جذورها في أصول أشهر الخرافات المصرية.» «وكان اليونانيون وهم يطوفون بالمدن المصرية يجعلون الآثار والمعابد قيد عيونهم ومرمى أبصارهم، وكانت هذه المشاهد جل ما يحتاجون إليه، لتدريب خيالهم اليقظ الوثاب القدير على التصور. وإذا انتقلنا من الأساطير والاعتقادات الدينية إلى الأفكار الأكثر استغراقا في الفلسفة ، نجد أثر التأثير المصري في اليونان، ففكرة العدالة العالية التي نراها في هسيود فكرة مصرية بحتة، وتاميز اليونانية هي «ما» المصرية إلهة الحق والعدل، ويتمثل في شخصها القانون الأخلاقي، والسنن المرعية في المجتمع، ويعنو لهيبتها الفرعون نفسه، كذلك تتجه أفكارنا نحو مصر كلما قرأنا في هسيود تقديره حياة العمل والجهاد، والسير في منهاج الفضيلة، وكذلك عندما ينصح لنا بالسعي الحر الجريء.» •••
هذا جوهر ما يراه الأستاذ فور من حيث علاقة حضارة اليونان بمصر خاصة، وما جاورها من الحضارات الأخرى عامة.
على أن لنا أن نذهب في رأي الأستاذ فور وما يماثله من الآراء كل مذهب، ولنا أن نقول بأن اليونان اقتبسوا من المصريين شرائع ومبادئ علمية في علمي العدد والهندسة، وأنهم انتحلوا مذاهب دينية أو ميثولوجية أو فنية، وأنهم نحتوا وصوروا على مثال الفن الفرعوني القديم، لنا في مثل هذا أن نقول إنهم اقتبسوا شيئا من مصر أو أشياء من مختلف الحضارات الأخر، فإن باب البحث في ذلك واسع وميدان التنقيب فسيح.
Shafi da ba'a sani ba