يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء. انتهى ملخصا من كتابه (فصل المقال). وقد قال الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد) الذي نشر منذ عامين في تأويل بعض آيات القرآن تأويلا ينطبق على أقوال العلماء المعاصرين في خلق الكون، والاكتشافات العلمية الحديثة قد اكتشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
نقول ولعل المرحوم الكواكبي أخذ هذا التطبيق الجميل من ابن رشد نفسه.
بقي علينا أن نذكر رأيه في نشأة الكون من تلك المادة الأزلية، وهنا ننقل ما كتبه عن ذلك في الفصل الثاني عشر من كتابه (ما وراء الطبيعة). وقد قال الفيلسوف رنان أن هذا القول أهم الأقوال التي رد بها ابن رشد على مناظريه من المتكلمين في هذا الموضوع. وهذه خلاصته، قال:
في خلق الكون رأيان متناقضان وبينهما عدة آراء. فالرأيان المتناقضان؛ قول بعضهم أن الكون نشأ بالنمو الطبيعي، وقول البعض الآخر أنه خلق خلقا أي أوجد من العدم. أما أنصار النمو الطبيعي فعندهم أن الخلق إنما هو عبارة عن تولد الكائنات، وخروجها بعضها من بعض. والفاعل في ذلك عندهم لا وظيفة له غير تسهيل هذا الخروج والتوليد؛ فهو إذن بمثابة محرك لا غير. وأما أنصار الخلق فعندهم أن الفاعل يوجد الشيء من لا شيء أي من غير أن يحتاج إلى مادة ولا إلى نمو. وهذا الرأي هو رأي المتكلمين في ديانتنا ورأي النصارى - أيضا - خصوصا يوحنا النصراني (يوحنا فيلو بون) الذي يعتقد بأن قوة الخلق والإيجاد موجودة في الفاعل لا في المادة. بقيت الآراء التي هي بين هذين الرأيين المتناقضين، وهي تنحصر في رأيين - أيضا - الرأي الأول؛ مفاده أن قوة الإيجاد والخلق موجودة في الفاعل، ولكن لا يمكن خلق الشيء إلا من شيء. فوظيفة الفاعل هنا إيجاد الهيئة أو الصورة التي يجب أن تخلق المادة بها، ولذلك يدعونه «واهب الصورة» - وهذا مذهب ابن سينا. والرأي الثاني؛ مفاده أن الفاعل في الخلق أو الموجد تارة يكون متصلا بالمادة، وتارة يكون منفصلا عنها. فالمتصل بها كالنار التي تولد النار على سبيل الاتصال. والمنفصل عنها كالنبات والحيوان. وهذا مذهب تميثوس وربما كان مذهب أبي نصر الفارابي أيضا. بقي هنالك مذهب ثالث وهو مذهب أرسطو. ومفاد هذا المذهب أن الفاعل الموجد يوجد جملة المادة وصورتها معا، وذلك بتحريكها تحريكا يسهل لها الخروج من حيز القوة إلى حيز الوجود. وليست وظيفة الفاعل في هذا المذهب سوى مسهل لها ذلك الخروج وعامل على الاتصال بين المادة والصورة. فكل خلق إذن إنما هو عبارة عن حركة سببها الحرارة، وهذه الحرارة متى انتشرت في الماء والتراب تولدت منها الحيوانات والنباتات التي تتولد من غير لقاح
2
والطبيعة تخلق هذا الخلق بهذا الترتيب البديع، كما لو كانت مسوقة إليه بعقل رفيع، مع أنها خالية من هذا العقل. وتلك القوات التي يتم بها الخلق والإيجاد والتي هي ناشئة عن حركة الشمس والكواكب، وتأثيرها في العناصر هي ما كان أفلاطون يسميه «العقول» - ومن رأي أرسطو في هذا المذهب أن الفاعل لا يخلق الصورة خلقا؛ لأنه لو كان ذلك صحيحا لصح خلق الشيء من لا شيء. وإنما الذي جعل بعض الفلاسفة يقعون في هذا الخطأ ويسمون الفاعل «واهب الصورة» توهمهم أن الصورة شيء حقيقي لا صورة. وهذا ما جعل علماء الديانات الثلاث الموجودة في هذا الزمان، يعتقدون بأن الشيء قد يخلق من العدم أي من لا شيء. وبناء على هذا الاعتقاد قال المتكلمون من مذهبنا (الإسلام) بأن الفاعل يوجد الكائنات بلا واسطة، وبذلك يكون كمن يعمل في وقت واحد عملا واحدا جامعا لعدة أعمال متناقضة متقابلة، ولكن هذا المذهب يقتضي أن كل شيء في الكون مفتقر على مداخلة الخالق، فالنار لا تحرق والماء لا تجري مثلا، إلا بخلق خاص وهلم جرا. وفوق ذلك فإنهم يعتقدون بأن الإنسان متى رمى حجرا فإن القوة التي رمى بها ليست بقوته، ولكنها قوة الفاعل العام أي الله. وهكذا يفنون نشاط الإنسان وقوته.
ولكن (هوذا) مذهب أغرب مما تقدم وهو: كما أن الله يخرج شيئا من لا شيء؛ فهو يجعل - أيضا - الشيء لا شيء. وبناء على ذلك يكون الإعدام عملا من أعمال الله كما أن الإيجاد من أعماله. فالموت إذن من أعمال الله. وأما نحن فإننا نعتقد ما يخالف ذلك. نعتقد بأن الإعدام عمل كالإيجاد أي أنه يتبع نظاما مثله، ذلك أن كل شيء وجد إنما هو مستعد بطبيعته للفناء. فالفاعل سواء كان ذلك في حالة الإيجاد أو حالة الفناء لا وظيفة له غير تسهيل خروج، وذلك الاستعداد من حيز القوة إلى حيز الفعل. فالعمدة إذن في الحالتين إنما هي على الفاعل وعلى القوة الكامنة في المادة معا. وينبغي أن لا يفصل بينهما. وإذا وجد أحدهما ولم يوجد الآخر، فلا يحدث خلق ولا يتم شيء. انتهى مذهب ابن رشد في خلق الكون وهو منقول هنا بمعناه لا بحرفه؛ لأننا لخصناه تلخيصا من الصفحة 108 فصاعدا من كتاب رنان في فلسفة صاحب الترجمة وذلك؛ لأن يدنا لم تصل من سوء الحظ إلى النص العربي. فهل يقبل المتكلمون اليوم هذا المذهب.
والذي يتضح مما تقدم أن الخلق إنما هو عبارة عن حركة. وإن كل حركة تستدعي حركة قبلها، وأخرى بعدها ليتم فعل الخلق.
وإن كل ما هو مستعد للوجود يجب أن يخرج من حيز القوة والاستعداد إلى حيز الفعل، وإلا صار في الكون شيء من الوقوف والفراغ. وبما أن الحركة هي سبب هذا الخروج فلولاها لم يحدث شيء في العالم. وقد استشهد رنان على صحة كل ذلك (فوق الشذرة التي عربناها) بالفصل الثامن من كتاب ابن رشد في الطبيعيات الشذرة 176 و184 و155 و157 والفصل الثالث من الشذرة 47 والفصل الرابع منه - أيضا - الشذرة 82.
Shafi da ba'a sani ba