بقي القسم الرابع والخامس وهما من موضوعات فلاسفة العرب الذين أدخلوا هذه الزيادات على فلسفة أرسطو، حين شرحهم لها وهم يحسبون أنهم يكملونها ويهذبونها.
الفلسفة الرشدية عند اليهود
بقي علينا بعدما تقدم من بسط فلسفة ابن رشد أن نذكر تاريخها في أوروبا فنقول:
إن البحث في هذا الموضوع يستغرق كتابا مفردا على حدة؛ لأن تاريخ الفلسفة الرشدية في أوروبا إنما هو تاريخ الفلسفة اليهودية والفلسفة الأوروبية، ولذلك نلتزم الاختصار بقدر الإمكان لئلا يطول هذا الكتاب أكثر مما يجب.
من المعلوم أنه بعد وفاة ابن رشد كان الفاعل الكبير في إذاعة فلسفته بين اليهود - وبالتالي في أوروبا - عالم يهودي كبير يسميه علماء اليهود «موسى الثاني»، وهو المعروف عند العرب بابن عبيد الله، والمعروف عند اليهود بموسى ميمون الذي تقدم ذكره.
1
وقد روى بعض المؤرخين أن موسى هذا كان من تلامذة ابن رشد. وقد أقام ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها، ولكن بعضهم أثبت أن موسى برح الأندلس قبل نفي ابن رشد بثلاثين سنة، فرارا من الاضطهاد الذي كان يصيب المشتغلين بالفلسفة في بعض الأزمان. ومع ذلك؛ فإن موسى يقول في أحد مؤلفاته إنه كان تلميذا لأحد تلامذة ابن بجا. غير أنه لا يسمى ابن رشد. وأول مرة سماه فيها كانت في كتاب كتبه في سنة 1191 للميلاد من القاهرة ملجئه إلى تلميذه يوسف بن يهوذا الذي تقدم ذكره. وهذا نص هذا الكتاب: «لقد وصلني في المدة الأخيرة كل ما ألفه ابن رشد في تلاخيص أرسطو لكتابه (الحس والمحسوس). وقد ظهر لي أنه قد أصاب كل الإصابة، ولكني لم أتمكن إلى الآن من البحث في مؤلفاته بحثا وافيا».
ومنذ هذا الحين أخذ موسى يدرس فلسفة ابن رشد، ويقابلها بفلسفة أرسطو الأصلية. ثم استخرج من الفلسفتين فلسفة رام تطبيقها على الشريعة اليهودية. فقال: إن العالم غير قديم، أي أن المادة غير أزلية كما يقول الفلاسفة، ولكن ما ذكر في سفر التكوين من خلق العالم لم يقصد به موسى سوى وصف ترتيب الكائنات بعد تكوينها، لا في بدء تكوينها. ومع ذلك؛ فإنه لا يعتقد بأن القول يقدم العالم كفر؛ لأن ذلك يمكن تطبيقه على الشريعة. وهو يعتقد في شخصية العقل أي انقسامه في الإنسان حتى يصير كل عقل فيه نفسا قائمة بذاتها، ما يخالف اعتقاد ابن رشد في هذا الموضوع من بعض الوجوه. وسبب هذه المخالفة رغبته في التسوية بين حزب الفلسفة وحزب الدين الإسرائيلي. وهذه الرغبة جعلته يؤول مسألة البعث وحشر الأجساد تأويلا ظهر فيه ارتباكه واضطرابه. وخوفا من أن يقع في شيء شبيه بتعليم المسيحيين بشأن الألوهية لم يجسر أن ينسب إلى الله تعالى صفات خصوصية كالوجود والوحدة والأزلية؛ لأن هذه الصفات تجر إلى غيرها وهذه إلى غيرها وهلم جرا. ولذلك قال المقريزي المؤرخ العربي المشهور أن موسى هذا كان يعلم أبناء وطنه الكفر والتعطيل. وقال غيليوم دوفرن طاعنا على الفلسفة، ومستنكرا إقبال اليهود عليها. إن جميع اليهود الخاضعين للعرب في أسبانيا تركوا شريعة إبراهيم وتمذهبوا بمذهب العرب والفلاسفة.
أما رأي موسى في العلم والنبوءة فهو أن العلم ضروري للإنسان إذ به كماله وتمامه. والعالم تبدأ جنته وسعادته في هذه الدنيا، ولكن العلم لا يدركه إلا الخواص، ولذلك لا بد من النبوءة للعوام. وهذا هو السبب في إنزال الله الوحي على الأنبياء. وما الوحي إلا حالة كمال طبيعي يبلغه بعض البشر المختارين، لذلك فهو بمنزلة فيض العقل الفاعل على الإنسان المختار فيضانا مستمرا.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن الأكليروس اليهودي قاوم تلك الأصول الفلسفية كما قاومها أكليروس باقي الأديان في كل مكان. وسيرد تفصيل ذلك في موضع آخر، ولكن حزب الفلسفة تغلب على حزب التقليد الديني في بدء الأمر، فاستمر الباحثون اليهود في أبحاثهم الفلسفية إلى أجل مسمى.
Shafi da ba'a sani ba