فمن كل ذلك يظهر أن في فلسفة ابن رشد شيئا من التناقض. ولعله معذور فيه. وأشد ذلك التناقض ظهورا إنما كان في قوله: إن سبب ضعف بصر الشيخ ضعف عينه الباصرة لا ضعف قوة البصر فيه. فلو كان للشيخ باصرة الفتى لاستطاع النظر كما ينظر الفتى. ثم يقول: إن الرقاد خير دليل على بقاء النفس؛ فإنه بينما تكون كل آلات النفس في النوم هامدة ساكنة كأنها معطلة تكون النفس مستمرة الفعل في الجسم. ذلك لأن العقل أو النفس غير مرتبطة بشيء من أعضاء الجسم، ولذلك تبقى منفردة مستقلة فاعلة مع سبات تلك الأعضاء. وهكذا يصل الفيلسوف إلى الاعتقاد ببقاء النفس (أي الخلود) اعتقاد العامة به.
نقول: فهذا قول يدل أصرح دلالة على اعتقاد ابن رشد ببقاء النفس لو لم يردفه ببحث آخر فيها ما خلاصته: إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وأنه واحد في سقراط وأفلاطون، وبما أنه لا شخصية له فالشخصية ناشئة عن الحواس. فالإنسان شخص مفرد من حيث الحواس لا من حيث العقل؛ لأن العقل لا يتجزأ، ومن ذلك تنشأ مبادئ مخالفة للمبدأ السابق (راجع ابن رشد تأليف رنان الصفحة 154 و155).
هذه هي آراؤه المتناقضة في هذا الموضوع. فلا ريب أنك بعد اطلاعك عليها تذكر قولنا في الفقرة الخامسة التي فيها الخلاف «رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب - أيضا - ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي». نقول: وقد كان في ذلك إشارة إلى تلك المتناقضات.
بقي ما جاء في ختام الفقرة وهذا نصه: وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية. وإليك تفسير هذا القول الغامض.
إن المقصود بذلك إن الفيلسوف لا يعتقد بحشر الأجساد اعتقادا صريحا. أي أنه لا يعتقد بأن الإنسان يكون في الحياة الأخرى فردا ناطقا آكلا شاربا متزوجا كما يقول العامة. بل هو لا يعتقد - أيضا - بوجوب الثواب والعقاب اعتقادا صريحا. وإليك ما قاله في تلخيصه كتاب لأفلاطون، من الأوهام المضرة اعتبار الناس الفضيلة والخير واسطة للوصول إلى السعادة؛ فإن الفضيلة إذا أنزلت في هذه المنزلة لم تعد فضيلة. ذلك أن الإنسان لا يحرم نفسه الملاذ إلا وهو يؤمل أن يعوض عليه مثلها وزيادة. والشجاع لا يطلب الموت في الحرب إلا فرارا من شر أعظم من شر الحرب.
والحكيم لا يحترم مال غيره إلا لينال بعد ذلك مضاعف ذلك المال (راجع رنان الصفحة 156) وفي موضع آخر يعنف أفلاطون تعنيفا شديدا؛ لأنه وصف في أحد كتبه حالة النفوس في الآخرة فقال في تعنيفه: «إن هذه الخرافات لا تفيد شيئا بل هي تفسد عقول العامة، وخصوصا الأولاد دون أن تعود عليهم بنفع ما. وإنني أعرف أناسا ينبذون كل هذه الأوهام، ومع ذلك فإنهم لا ينقصون فضلا وفضيلة عن الذين يعتقدون بها» (راجع رنان الصفحة 157).
فمن هذا القول الأخير يظهر أن لابن رشد في هذه المسألة هما غير هم البحث العلمي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن جميع الفلاسفة العقلاء الذين تخيفهم سطوة المبادئ المادية الدنيئة على العالم لخنق ما فيه من الخير بقوة الشراهة والأثرة يهتمون به أشد اهتمام. ولذلك لم يكن يجادل مناظريه في حقيقة هذا الاعتقاد ولكن في صفته. فقد كان يقول إن الاعتقاد بمعاد الأجسام قد نصت عليه الشرائع، فلا يجب أن يتعرض له بقوة مثبت أو مبطل، ولكن يجب أن يقال أن الأجسام التي تعود بعد الموت «لا تعود بالشخص، بل تعود أمثال هذه الأمثال؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص - كما قال أرسطو - في كتابه الكون والفساد. وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم». ومعنى هذا أن النفس تتخذ جسما آخر غير جسمها الحالي؛ لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب. أما الإمام الغزالي فقد كان يقول: «في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يطلع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده. ولم يبعد أن يكون في أحياء الأبدان منهاج غير ما شاهده. وقد ورد في بعض الأخبار أنه يغمر الأرض في وقت البعث مطر قطراته تشبه النطف ويختلط بالتراب. فأي بعد في أن يكون في الأسباب الإلهية أمر يشبه ذلك، ويقتضي انبعاث الأجساد واستعدادها لقبول النفوس المحشورة» (راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي).
ربما أننا ذكرنا هنا هذه المسألة، فجدير بنا أن ننقل الفقرة الجميلة التي كتبها ابن رشد في هذا الموضوع؛ فإنها كلها فوائد فرائد فرائد وهذا نصها بالحرف الواحد نقلا عن كتابه تهافت التهافت، الذي رد به على الإمام الغزالي. قال رحمه الله تعالى: «ولما فرغ (أبو حامد الغزالي) من هذه المسألة أخذ يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول. والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرا في الشرائع ألف سنة (كذا) والذين تأدت إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين (كذا) وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام، وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبني إسرائيل. وثبت - أيضا - ذلك في الإنجيل، وتواتر القول به عن عيسى عليه السلام وهو قول الصابئة. وهذه الشريعة (الصابئة) قال أبو محمد بن حزم أنها أقدم الشرائع. بل القوم يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيما لها (أي شريعة بعث الأجساد) وإيمانا بها، والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان والفضائل النظرية والصنائع العملية. وذلك أنهم يرون أن الإنسان لا حياة له في هذه الدار إلا بالصنائع العملية، ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية. وإنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا بالفضائل الخلقية. وإن الفضائل الخلقية لا تمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لها في ملة ملة مثل القرابين والصلوات والأدعية ، وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيين. ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تؤخذ مباديها من العقل والشرع، ولاسيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع وإن اختلقت في ذلك بالأقل والأكثر. ويرون مع هذا أنه ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مباديها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد. وأكثر من ذلك هل هو موجود أم ليس بموجود. وكذلك يرون في سائر مباديه مثل القول في السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود، كما اتفقت على معرفة وجوده وصفاته وأفعاله وإن اختلفت فيما تقوله في ذات المبدأ وأفعاله بالأقل والأكثر. ولذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال. فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف السعادة لبعض الناس العقلاء وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة. والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت بما يخص الحكماء، وعنيت بما يشترك فيه الجمهور. ولما كان الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام، كان التعليم العام ضروريا في وجود الصنف الخاص وفي حياته. أما في وقت صباه ومنشئه فلا يشك أحد في ذلك، وأما عند نقلته إلى ما يخص فمن ضرورته ألا يستهين بما يشاغله، وأن يتأول لذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم هو ما يعلم لا ما يخص وإنه إن صرح بشك في المبادئ الشرعية التي نشأ عليها أو بتأويل أنه مناقض للأنبياء صلوات الله عليهم وصارف عن سبيلهم؛ فإنه أحق الناس بأن ينطق عليه اسم الكفر، وتوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر. ويجب عليه مع ذلك أن يختار أفضلها في زمانه، وإن كانت كلها عنده حقا وإن يعتقد أن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه. ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام. ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلقى عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان عليه السلام. ولم تزل الحكمة أمرا موجودا في أهل الوحي وهم الأنبياء، ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبيا، ولكنهم العلماء الذين قيل فيهم أنهم ورثة الأنبياء. وإذا كانت الصنائع البرهانية في مباديها للصادرات والأصول الموضوعة فبالحري يجب أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن يكون هاهنا شريعة بالعقل فقط؛ فإنه يلزم أن يكون ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي. والجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة عن الأعمال الخلقية والعملية. فقد تبين من هذا القول أن الحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع هذا الرأي، أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة. والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى، وأن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بما شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن المتروك أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها. وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد فيها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها. ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار
وقال النبي عليه السلام: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). وقال ابن عباس (رضى الله عنه): ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء. فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور. وليس ينبغي أن ينكر ذلك من يعتقد أنا ندرك الموجود الواحد ينتقل من طور إلى طور مثل انتقال الصور الجمادية إلى أن تصير مدركة ذواتها وهي الصور العقلية. والذين شكوا في هذه الأشياء وتعرضوا وأفصحوا به، إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، هذا مما لا يشك أحد فيه. ومن قدر عليه من هؤلاء فلا يشك أن أصحاب الشرائع والحكماء بأجمعهم يقتلونه. ومن لم يقدر عليه؛ فإن أتم الأقاويل التي يحتج بها عليه وهي الدلائل التي تضمنها الكتاب العزيز، وما قاله هذا الرجل (يعني الغزالي) في معاندتهم هو جيد. ولا بد في معاندتهم أن توضع النفس غير ثابتة، كما دلت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وإن توضح أن التي تعود هي أمثال هذه الأمثال التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم كما بين أبو حامد. ولذلك لا يصح القول بالإعادة على مذهب من اعتقد من المتكلمين أن النفس عرض، وأن الأجسام التي تعاد هي التي تعدم. وذلك أن ما عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد، بل اثنان بالعدد، وبخاصة من يقول منهم أن الأعراض لا تبقى زمانين». انتهى كلام ابن رشد في خاتمة كتابه (تهافت التهافت).
Shafi da ba'a sani ba