Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
(1) مدخل
أولا: علاقة متوترة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم
يقول هيدجر: إن العلم لا يفكر في ذاته. ويمكن أن نضيف إلى هذا أنه لا يعنى كثيرا بذاكرته، ولا يلتفت إلى ماضيه، فديدن العلم في أن يصحح ذاته ويجدد نفسه ويتجاوز الوضع القائم، ناهيك عن الماضي، إنه يشحذ فعالياته المنطلقة بصميم الخصائص المنطقية صوب الاختبارية والتكذيب والتصويب، صوب مزيد من التقدم والكشف، أي صوب المستقبل دوما.
لذلك لم تكن علاقة العلم بتاريخه مماثلة لعلاقة الكيانات الحضارية الأخرى بتاريخها، فقد تعتبره بمثابة سجلها المدون الذي يحمل معالم تشكل هويتها، فلا تنفصل عن تاريخها إلا إذا كان للشخص أن ينفصل عن بطاقة هويته، ولعل المنطلق الفلسفي يطرح علاقة الفلسفة - قبل أي شيء آخر - بتاريخها، ولما كان تاريخ الفلسفة هو ذاته الفلسفة، فإن هذا يبرز كيف تنفرج الهوة بين العلم وتاريخه.
ولكن بقدر ما نجد العلم في القرن العشرين قد أصبح الفعالية العظمى التي تشكل وتعيد تشكيل العقل المعاصر والواقع المعاصر، يوما بعد يوم وإلى غير نهاية، نجد تاريخ العلم هو تاريخ العقل الإنساني والتفاعل بينه وبين الخبرات التجريبية أو معطيات الحواس، هو تاريخ المناهج وأساليب الاستدلال وطرق حل المشكلات التي تتميز بأنها واقعية عملية ونظرية على السواء، إنه تاريخ تنامي البنية المعرفية وحدودها ومسلماتها وآفاقها، تاريخ تطور موقف الإنسان بإمكاناته العقلية من الطبيعة والعالم الذي يحيا فيه، تاريخ تقدم المدينة المدنية والأشكال الحضارية والأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان للتعامل مع بيئته؛ لكل ذلك يحق لنا القول: إن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
وعلى أية حال، إذا كان العلم لا يفكر في ذاته، فإن فلسفة العلم هي التي تتكفل بذلك العبء وتضطلع بالتفكير في ذات العلم ... في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال التفكير في الإبستمولوجيا - أي نظرية المعرفة العلمية - ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى والعوامل الحضارية المختلفة.
وإذا كان العلم لا يلتفت كثيرا إلى ماضيه، فإن فلسفة العلم أصبحت لا تنفصل عن الأبعاد التاريخية لظاهرة العلم فغدت شديدة العناية بتاريخ العلم، بحيث إن المتابع لتطورات فلسفة العلم في القرن العشرين يلاحظ أن أبرز ما أسفرت عنه هذه التطورات هو حلول الوعي التاريخي في صلبها، فتستقبل فلسفة العلم القرن الحادي والعشرين، وقد انتقلت من وضع مبتسر استمر طويلا يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته ... انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم، وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج، أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم.
ولا شك أن فلسفة العلم هي المعبر الرسمي والشرعي عن أصول التفكير العلمي، وهي مسئولة عن وضعية ودور تاريخ العلم، وسوف تكشف صفحات مقبلة عن عوامل عديدة أفضت فيما سبق إلى إغفالها البعد التاريخي طويلا.
ولكن نلاحظ مبدئيا أن فلسفة العلم كمبحث أكاديمي متخصص ومستقل عن نظرية المعرفة بصفة عامة، قد نشأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهذه حقبة شهدت ذروة من ذرى المجد العلمي؛ إذ كان العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن معتدا بذاته إلى أقصى الحدود، فلم ينشغل رجالاته كثيرا بتاريخ العلم، ولم يعن فلاسفته بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر حين شوهد ما بدا للعيان من شبه اكتمال للعلوم الفيزيوكيماوية المسلحة باللغة الرياضية، وقد آتت مصداقيتها العينية والواقعية بانفجار الثورة الصناعية التي غيرت تماما من شكل التكوينات والعلاقات الاجتماعية والتقسيمات الطبقية والصراعات الدولية.
وإزاء هذا الواقع المستحدث والحي المتوقد، انصرف اهتمامهم عن تاريخ العلم، وكأن حسبهم الافتتان بالعلم ذاته في تلك المرحلة النابضة، والتأمل في رونق جلالها وجبروت شموخها، الذي نجح آنذاك - القرن التاسع عشر - في أن يضوي تحت لوائه فروعا كانت عصية للعلوم الحيوية، فضلا عن العلوم الإنسانية، وهذه الأخيرة - أي العلوم الإنسانية - تعد نشأتها الواعدة من المنجزات اليانعة التي يفخر بها القرن التاسع عشر وعلمه الكلاسيكي.
Shafi da ba'a sani ba