Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
W. Harvey (1578-1657م) الطبيب الخاص لفرنسيس بيكون، وهذا الأخير لم يهتم باكتشاف هارفي للدورة الدموية، ولا بأبحاث فيساليوس (1514-1564م) الأسبق في مجال التشريح. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضها بيكون! بوصفها فرضا أهوج، ما دامت الخبرة الحسية التجريبية تخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدر نظريات كبلر وجاليليو حق قدرها، ولم يعترف أصلا بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية. هكذا كانت ثقافة بيكون العلمية ضحلة. أجل قام ببعض التجارب البسيطة أو الساذجة، أشهرها تجربة دفع حياته ثمنا لها، وذلك حين قام بدفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن ليختبر أثر البرودة في وقف تعفن اللحم، وبعد بضع ليال خرج في يوم قارس البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أصيب ببرد قاتل ألزمه فراش الموت، حيث قال قولته الشهيرة التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة»، فهل يقصد تجربة الدجاجة والبرودة ؟ أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر؟ على أية حال لم ينتفع بيكون شخصيا بمنهجه في إضافة تذكر للعلم، ولم يتتلمذ على يديه أو يستفد حقيقة من كتاباته أي من العلماء الذي صنعوا حركة العلم الحديث، وترجموا المنهج التجريبي أبلغ ترجمة ممكنة؛ لذلك يرى بعض الباحثين أمثال ألكسندر كواريه أن اقتران اسم بيكون بحركة العلم الحديث سخافة لا معنى لها، وإذا أضفنا إلى هذا ما سنراه من نقائص ومآخذ على منهجه التجريبي، حق لنا أن نتساءل فعلا: كيف ولماذا اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث؟
ويمكن أن نطرح هذا السؤال من زاوية أخرى فنقول: هل كان على البشرية الانتظار حتى مجيء بيكون لتدرك أن الحواس نوافذ ضرورية لإدراك العالم من حولنا؟! ألم يكن الاتجاه التجريبي قائما في الفلسفة منذ أول مدرسة فلسفية في التاريخ؟! ألم يمارس التجريب العلمي على أتم وجه منذ هيرو السكندري وأرشميدس وجابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم خصوصا هذا الأخير؟ ألم تتسع الحضارة الإسلامية لفعاليات المنهج التجريبي؟ فماذا بقي إذن لبيكون؟
في الإجابة على هذا نقول: أجل اتسعت الحضارة الإسلامية للعلم ومنهجه التجريبي وقطع فيها شوطا كبيرا، ولكن لم يكن محورا أو مركزا، بل دائرة من الدوائر التي ترسمت حول المركز الحضاري، أي النص الديني ... القرآن الكريم، والثورة الثقافية العظمى التي أحدثها. لذلك يختلف وضع العلم في الحضارة العربية الإسلامية اختلافا كبيرا عن وضعه في الحضارة الأوروبية الحديثة؛ فقد كان في الأولى مجرد بعد، بينما هو في الثانية محور، بل محور كل المحاور، بمعالمه تترسم القيم، وعلى أساسه تتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره المرجعي.
على هذا يتضح لماذا يقترن اسم بيكون بالعلم الحديث؟ فقد بدا جليا الآن أن الإجابة مطروحة في الجزء الأخير من الفصل السابق، في تأكيد قدرة الفلسفة على العموم وفلسفة المنهج على الخصوص في تجسيد وتجريد روح العصر، وقد كان بيكون بمنهجه هكذا، أقوى تجسيد لروح عصره وإلى درجة لا يطاولها إلا أرسطو.
فقد رأينا كيف كان بيكون من أعنف من هاجموا الاتجاه النظري الخالص بقياساته العقيمة عند الفلاسفة المدرسيين السابقين، ورفض بقطع تصورهم بإمكانية حل كل المشاكل الكبرى عن طريق التأمل وإقامة الحجج اللفظية، وأكد على ضرورة استخدام حواسنا وعقولنا في ملاحظة الوقائع، وتسجيلها بأمانة، هكذا «حدد بيكون سمة من أهم سمات التفكير العلمي الحديث، وهي الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيا، بدلا من الاكتفاء بالكلام عنها»،
6
فيرى الدكتور فؤاد زكريا أن بيكون يستحق فعلا لقب فيلسوف الثورة الصناعية قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام،
7
وليس فقط فيلسوف الحركة العلمية. والثورة الصناعية على أية حال نتيجة من نتائج العلم الحديث، وسليلة من سليلاته.
أجل، اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث؛ لأن دعواه المنهجية كانت أقوى تجريد وتجسيد لعصر العلم الحديث، أقوى تجسيد للحداثة، للانقلاب على الماضي رفضا له والقطيعة مع العصور الوسطى المدرسية، فمنهجها قياسي يبدأ بمقدمات كلية ليخرج بنتائج جزئية تلزم عنها ولا التجاء إلى الحواس أو التجريب. وكان المنهج الذي رفع لواءه بيكون هو الانقلابة، هو الضد الصريح تماما لهذا، إنه منهج يعتمد على الحواس والتجريب، ويبدأ من جزئيات ليخرج بنتيجة كلية هي قانون من قوانين الطبيعة، إنه المنهج الذي يستقطب سؤال العصر ... سؤال الطبيعة.
Shafi da ba'a sani ba