Falsafar Kimiyya a Karni na Ashirin
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Nau'ikan
تمثل العلوم الإنسانية بدورها ما يضاف حقا إلى الرصيد العلمي للقرن العشرين، فعلى مدار عقوده قطعت شوطا طويلا، وبذلت جهودا مضنية وناجحة إلى حد كبير في تحديد موضوعاتها وتعريف ظواهرها وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها، وقد أرست مناهجها وأساليبها الإجرائية، كالتحليلات الرياضية - مثلا الاقتصادية - والمناهج الإحصائية والقياسات العددية، والوسائل الأمبيريقية (أي التجريبية الخالصة) كالاختبارات والمقاييس السيكوميترية والسوسيوميترية، والتجربة المعملية والتجربة الميدانية، والعينة التجريبية والعينة الضابطة، والاستبار وقوائم الاستبيان وكشف الأسئلة واستمارة المقابلة والمشاهدة بالمشاركة، فضلا عن الأساليب الدقيقة لتحليل وتنظيم واستخلاص ما تفيد به المعطيات ... إلى آخر ما يدرب عليه الباحثون - تبعا لتخصصاتهم المختلفة - من منهجيات إجرائية دقيقة، أفضت بالعلوم الإنسانية إلى محصلات جليلة الشأن، ولا تزال تفضي، خصوصا بعد تطور الكومبيوتر الذي يسر السيطرة على جماع هائل من المعطيات الإمبيريقية.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، كان قد اتضح تماما أن الدراسات الإنسانية الإخبارية قد شقت لنفسها طريق «العلم» بالمعنى الدقيق، وقطعت منه شوطا كبيرا واستقام عودها. وهذا النضج اللافت جعلها في منزلة تؤهلها للمقارنة بالعلوم الطبيعية، ومن هنا تثار مشكلة العلوم الإنسانية والتي تتمثل في تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية، أحرزت العلوم الإنسانية - ولا شك - قدرا ملحوظا من التقدم والنجاح، لكنه أقل كثيرا مما حققته العلوم الطبيعية، ولم يتكون بعد نسق متكامل من القوانين التفسيرية في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، يماثل من حيث القوة المنطقية أنساق القوانين التفسيرية في أقل فروع العلوم الطبيعية حظوة من التقدم.
وكما لاحظنا مما سبق، الهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة على السؤال كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ لينجز العلم أربع مهام بشأنها هي الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. المرحلة الأولى من العلم هي المرحلة الوصفية التي تجيب على السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدى؟ ولكن هذا لا يكفي، فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة، فيما يعرف بالتقانة «التكنولوجيا» التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث، دونا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري ... هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية عليها، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب على السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو محك لنجاح التفسير. والواقع أن التفسير هو الإحاطة الحقيقية بالظاهرة، وإذا كان الوصف هو محك وجود العلم أو عدم وجوده، فإن التفسير هو محك التقدم العلمي. ويمكن أن تقاس درجة تقدم العلم بمدى توغله في المرحلة التفسيرية ونجاحه فيها، أو درجة دقة هذا النجاح. وتبلغ المرحلة التفسيرية اكتمالها المنطقي في النظرية العامة أو البحتة، التي تعني الدامغ المعتمد للنسقية العلمية.
وفي هذا نلاحظ أن حصاد العلوم الإنسانية قد تنامى تناميا ناجحا في المرحلة الوصفية، دونا عن المرحلة التفسيرية، فضلا عن البحتة، وإذا كنا بإزاء أية ظاهرة إنسانية، مثلا التفوق الدراسي أو الإرهاب أو تعاطي المخدرات، يمكن أن نتوقع من العلوم الإنسانية توصيفات علمية دقيقة للظاهرة، أي إجابة على السؤال كيف تحدث؟ أما عن التفسير، فمن الصعب أن يتفق باحثو الإنسانيات على إجابة للسؤال: لماذا يحدث التطرف الديني مثلا، ويمكن أن نتوقع إجابات متعددة وأيضا متناقضة.
ومن أوضح الأمثلة على تناقضات العلوم الإنسانية تحليلية فرويد وسلوكية واطسن اللتان تصدرتا علم النفس في أواسط القرن العشرين، وبينما نجد خطأ التفسير التحليلي في أنه يبالغ في تعميق وتعقيد الظاهرة النفسية وعلى حساب منهج العلم ومنطقه، نجد خطأ السلوكية في أنها تبالغ في تسطيح الظاهرة النفسية وتبسيطها، وإن كان تبسيطا لحساب منهج العلم فإنه في النهاية يقتصر على الوقوف على سطح الظاهرة والاستسلام الكامل للمعطى التجريبي، وتفتيت موضوع الدراسة إلى ذرات مغفلة الطبائع التكاملية للكيانات الإنسانية. وبتأكيد السلوكية على أن التجريب المعملي هو فقط الذي يؤدي إلى نتائج يعتمد عليها تراخى اهتمامها بعمليات التفكير والمعرفة في الذهن، وعجزت عن تفسير الظواهر النفسية شديدة التعقيد التي لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تعميم تجريبي مباشر يفترض أن الإنسان مجرد متلق سلبي لعوامل البيئة والوراثة. وأدى هذا إلى تجاوز السلوكية منذ الستينيات بعلم النفس المعرفي المستفيد حقا من إبستمولوجيا القرن العشرين وتقاناته وطرح إمكانات مستقبلية تقدمية أمام علم النفس، لكن لا تزال مشكلة التفسير قائمة. ولا يزال هذا التناقض بين التفسيرات وعجزها عن التكامل ماثلا في فروع شتى من العلوم الإنسانية كأن تسرف مدارس الوضعية والوظيفية والبنيوية وقرائنها في التركيز على ثبوت المجتمع واستقراره، بينما تسرف مدارس أخرى في التركيز على حركية المجتمع وتغيره.
وليس يعني هذا إنكار قيمة ما أنجزته العلوم الإنسانية في محاولاتها المحدودة النجاح للتفسير، أو في محاولاتها الناجحة تماما للوصف. وليس الوصف أمرا يسيرا أو هينا أو مجرد مرحلة تمهيدية، بل إن الوصف بمثابة اكتشاف
Discovery
للظاهرة؛ لأنه عملية تعيين واختبار علاقات أكثر أو أقل عمومية بين خواص الظاهرة موضوع البحث، وهو اكتشاف؛ لأن هذه العلاقات لم تكن معروفة قبل الوصف العلمي الذي كشف عنها.
26
لكن التفسير يتجاوز الوصف فيستعين به ويضيف إليه القوانين أو النظريات كي يحقق هدفه فيمثل التقدم الحقيقي للعلم. وبينما تتكامل التفسيرات في العلوم الطبيعية أو يتجاوز بعضها البعض في متصل التقدم الصاعد أو على أقصى الفروض يميل تفسير إلى التأكيد على زاوية دون الأخرى؛ نجد التفسيرات في العلوم الإنسانية تتناقض وقد تبلغ حد العداء الصريح، وتعجز عن التكامل والإحاطة بالظاهرة، وبالتالي تحقيق نصيبها المأمول من التقدم العلمي.
Shafi da ba'a sani ba